فصل: فَصْلٌ: أَحْكَامُ هَذِهِ الْأَنْوَاعِ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع (نسخة منقحة)



.فَصْلٌ: أَحْكَامُ هَذِهِ الْأَنْوَاعِ:

وَأَمَّا أَحْكَامُ هَذِهِ الْأَنْوَاعِ فَهَذِهِ الْأَنْوَاعُ مُخْتَلِفَةُ الْأَحْكَامِ (مِنْهَا): مَا يَجِبُ فِيهِ الْقِصَاصُ، وَمِنْهَا مَا يَجِبُ فِيهِ دِيَةٌ كَامِلَةٌ، وَمِنْهَا مَا يَجِبُ فِيهِ أَرْشٌ مُقَدَّرٌ.
(وَمِنْهَا) مَا يَجِبُ فِيهِ أَرْشٌ غَيْرُ مُقَدَّرٍ.
(أَمَّا) الَّذِي فِيهِ الْقِصَاصُ فَهُوَ الَّذِي اسْتَجْمَعَ شَرَائِطَ الْوُجُوبِ فَيَقَعُ الْكَلَامُ فِي مَوْضِعَيْنِ: (أَحَدُهُمَا): فِي بَيَانِ شَرَائِطِ وُجُوبِ الْقِصَاصُ (وَالثَّانِي): فِي بَيَانِ وَقْتِ الْحُكْمِ بِالْقِصَاصِ.
(أَمَّا) الْأَوَّلُ: فَنَقُولُ: شَرَائِطُ وُجُوبِ الْقِصَاصِ أَنْوَاعٌ: (بَعْضُهَا): يَعُمُّ النَّفْسَ وَمَا دُونَهَا، وَبَعْضُهَا يَخُصُّ مَا دُونَ النَّفْسِ.
(أَمَّا) الشَّرَائِطُ الْعَامَّةُ: فَمَا ذَكَرْنَا فِي بَيَانِ شَرَائِطِ وُجُوبِ الْقِصَاصِ فِي النَّفْسِ مِنْ كَوْنِ الْجَانِي عَاقِلًا بَالِغًا مُتَعَمِّدًا مُخْتَارًا، وَكَوْنِ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ مَعْصُومًا مُطْلَقًا لَا يَكُونُ جُزْءَ الْجَانِي وَلَا مِلْكَهُ.
وَكَوْنِ الْجِنَايَةِ حَاصِلَةً عَلَى طَرِيقِ الْمُبَاشَرَةِ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ الدَّلَائِلِ.
(وَأَمَّا) الشَّرَائِطُ الَّتِي تَخُصُّ الْجِنَايَةُ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ فَمِنْهَا الْمُمَاثَلَةُ بَيْنَ الْمَحَلَّيْنِ فِي الْمَنَافِعِ وَالْفِعْلَيْنِ وَبَيْنَ الْأَرْشَيْنِ؛ لِأَنَّ الْمُمَاثَلَةَ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ مُعْتَبَرَةٌ بِالْقَدْرِ الْمُمْكِنِ فَانْعِدَامُهَا يَمْنَعُ وُجُوبَ الْقِصَاصِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الْمُمَاثَلَةَ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ مُعْتَبَرَةٌ شَرْعًا لَلنَّصُّ وَالْمَعْقُولُ.
(أَمَّا) النَّصُّ فَقَوْلُهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ} إلَى قَوْله تَعَالَى جَلَّ شَأْنُهُ: {وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ}، فَإِنْ قِيلَ: لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى بَيَانُ حُكْمِ مَا دُونَ النَّفْسِ، لَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الشَّرِيفَةِ، وَأَنَّهُ إخْبَارٌ عَنْ حُكْمِ التَّوْرَاةِ، فَيَكُونُ شَرِيعَةَ مَنْ قَبْلَنَا، وَشَرِيعَةُ مَنْ قَبْلَنَا لَا تَلْزَمُنَا (فَالْجَوَابُ): أَنَّ مِنْ الْقُرَّاءِ الْمَعْرُوفِينَ مَنْ ابْتَدَأَ الْكَلَامِ مِنْ قَوْلِهِ عَزَّ شَأْنُهُ: {وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ} بِالرَّفْعِ إلَى قَوْلِهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ} عَلَى ابْتِدَاءِ الْإِيجَابِ لَا عَلَى الْإِخْبَارِ عَمَّا فِي التَّوْرَاةِ، فَكَانَ هَذَا شَرِيعَتَنَا، لَا شَرِيعَةَ مَنْ قَبْلَنَا عَلَى أَنَّ هَذَا إنْ كَانَ إخْبَارًا عَنْ شَرِيعَةِ التَّوْرَاةِ لَكِنْ لَمْ يَثْبُتْ نَسْخُهُ بِكِتَابِنَا، وَلَا بِسُنَّةِ رَسُولِنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيَصِيرُ شَرِيعَةً لِنَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُبْتَدَأَةً فَيَلْزَمُنَا الْعَمَلُ بِهِ عَلَى أَنَّهُ شَرِيعَةُ رَسُولِنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا عَلَى أَنَّهُ شَرِيعَةُ مَنْ قَبْلَهُ مِنْ الرُّسُلِ عَلَى مَا عُرِفَ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ إلَّا أَنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ وُجُوبَ الْقِصَاصِ فِي الْيَدِ وَالرِّجْلِ نَصًّا لَكِنَّ الْإِيجَابَ فِي الْعَيْنِ وَالْأَنْفِ وَالْأُذُنِ وَالسِّنِّ إيجَابٌ فِي الْيَدِ وَالرِّجْلِ دَلَالَةً؛ لِأَنَّهُ لَا يُنْتَفَعُ بِالْمَذْكُورِ مِنْ السَّمْعِ وَالْبَصَرِ وَالشَّمِّ وَالسِّنِّ إلَّا صَاحِبَهُ (وَيَجُوزُ) أَنْ يَنْتَفِعَ بِالْيَدِ وَالرِّجْلِ غَيْرُ صَاحِبِهِمَا، فَكَانَ الْإِيجَابُ فِي الْعُضْوِ الْمُنْتَفَعِ بِهِ فِي حَقِّهِ عَلَى الْخُصُوصِ إيجَابًا فِيمَا هُوَ مُنْتَفَعٌ بِهِ فِي حَقِّهِ، وَفِي حَقِّ غَيْرِهِ مِنْ طَرِيقِ الْأُولَى، فَكَانَ ذِكْرُ هَذِهِ الْأَعْضَاءِ ذِكْرًا لِلْيَدِ وَالرِّجْلِ بِطَرِيقِ الدَّلَالَةِ لَهُ، كَمَا فِي التَّأَفُّفِ مَعَ الضَّرْبِ فِي الشَّتْمِ عَلَى أَنَّ فِي كِتَابِنَا حُكْمُ مَا دُونَ النَّفْسِ قَالَ اللَّهُ: {فَمَنْ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى عَزَّ شَأْنُهُ (وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ) وَأَحَقُّ مَا يُعْمَلُ فِيهِ بِهَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ مَا دُونَ النَّفْسِ (وَقَالَ) تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلَا يُجْزَى إلَّا مِثْلَهَا} وَنَحْوُ ذَلِكَ مِنْ الْآيَاتِ.
(وَأَمَّا) الْمَعْقُولُ فَهُوَ: أَنَّ مَا دُونَ النَّفْسِ لَهُ حُكْمُ الْأَمْوَالِ؛ لِأَنَّهُ خُلِقَ وِقَايَةً لِلنَّفْسِ كَالْأَمْوَالِ.
أَلَا تَرَى أَنَّهُ يُسْتَوْفَى فِي الْحِلِّ وَالْحُرَمِ كَمَا يُسْتَوْفَى الْمَالُ.
وَكَذَا الْوَصِيُّ يَلِي اسْتِيفَاءَ مَا دُونَ النَّفْسِ لِلصَّغِيرِ، كَمَا يَلِي اسْتِيفَاءَ مَالِهِ فَتُعْتَبَرُ فِيهِ الْمُمَاثَلَةُ كَمَا تُعْتَبَرُ فِي إتْلَافِ الْأَمْوَالِ.
(وَمِنْهَا): أَنْ يَكُونَ الْمِثْلُ مُمْكِنَ الِاسْتِيفَاءِ؛ لِأَنَّ اسْتِيفَاءَ الْمِثْلِ بِدُونِ إمْكَانِ اسْتِيفَائِهِ مُمْتَنَعٌ، فَيُمْتَنَعُ وُجُوبُ الِاسْتِيفَاءِ ضَرُورَةً، وَيَنْبَنِي عَلَى هَذَيْنِ الْأَصْلَيْنِ مَسَائِلُ (فَنَقُولُ) وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ-: لَا يُؤْخَذُ شَيْءٌ مِنْ الْأَصْلِ إلَّا بِمِثْلِهِ فَلَا تُؤْخَذُ الْيَدُ إلَّا بِالْيَدِ؛ لِأَنَّ غَيْرَ الْيَدِ لَيْسَ مِنْ جِنْسهَا فَلَمْ يَكُنْ مِثْلًا لَهَا؛ إذْ التَّجَانُسُ شَرْطٌ لِلْمُمَاثِلَةِ.
(وَكَذَا) الرِّجْلُ وَالْأُصْبُعُ وَالْعَيْنُ وَالْأَنْفُ وَنَحْوُهَا لِمَا قُلْنَا (وَكَذَا) الْإِبْهَامُ لَا تُؤْخَذُ إلَّا بِالْإِبْهَامِ، وَلَا السَّبَّابَةُ إلَّا بِالسَّبَّابَةِ، وَلَا الْوُسْطَى إلَّا بِالْوُسْطَى، وَلَا الْبِنْصِرِ إلَّا بِالْبِنْصِرِ، وَلَا الْخِنْصَرُ إلَّا بِالْخِنْصَرِ؛ لِأَنَّ مَنَافِعَ الْأَصَابِعِ مُخْتَلِفَةٌ؛ فَكَانَتْ كَالْأَجْنَاسِ الْمُخْتَلِفَةِ.
وَكَذَلِكَ لَا تُؤْخَذُ الْيَدُ الْيَمِينُ إلَّا بِالْيَمِينِ، وَلَا الْيُسْرَى إلَّا بِالْيُسْرَى؛ لِأَنَّ لِلْيَمِينِ فَضْلًا عَلَى الْيَسَارِ؛ وَلِذَلِكَ سُمِّيَتْ يَمِينًا.
وَكَذَلِكَ الرِّجْلُ.
وَكَذَلِكَ أَصَابِعُ الْيَدَيْنِ وَالرِّجْلَيْنِ لَا تُؤْخَذُ الْيَمِينُ مِنْهُمَا إلَّا بِالْيَمِينِ، وَلَا الْيُسْرَى إلَّا بِالْيُسْرَى.
وَكَذَلِكَ الْأَعْيُنُ؛ لِمَا قُلْنَا وَكَذَلِكَ الْأَسْنَانُ لَا تُؤْخَذُ الثَّنِيَّةُ إلَّا بِالثَّنِيَّةِ، وَلَا النَّابُ إلَّا بِالنَّابِ، وَلَا الضِّرْسُ إلَّا بِالضِّرْسِ لِاخْتِلَافِ مَنَافِعِهَا فَإِنَّ بَعْضَهَا قَوَاطِعُ وَبَعْضَهَا طَوَاحِنُ وَبَعْضَهَا ضَوَاحِكُ، وَاخْتِلَافُ الْمَنْفَعَةِ بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ يَلْحَقهُمَا بِجِنْسَيْنِ، وَلَا مُمَاثَلَةَ عِنْدَ اخْتِلَافِ الْجِنْسِ.
وَكَذَا لَا يُؤْخَذُ الْأَعْلَى مِنْهَا بِالْأَسْفَلِ، وَلَا الْأَسْفَلُ بِالْأَعْلَى لِتَفَاوُتٍ بَيْنَ الْأَعْلَى وَالْأَسْفَلِ فِي الْمَنْفَعَةِ، وَلَا يُؤْخَذُ الصَّحِيحُ مِنْ الْأَطْرَافِ إلَّا بِالصَّحِيحِ مِنْهَا فَلَا تُقْطَعُ الْيَدُ الصَّحِيحَةُ، وَلَا كَامِلَةُ الْأَصَابِعِ بِنَاقِصَةِ الْأَصَابِع، أَوْ مَفْصِلٌ مِنْ الْأَصَابِعِ.
وَكَذَلِكَ الرِّجْلُ وَالْأُصْبُعُ وَغَيْرُهَا؛ لِعَدَمِ الْمُمَاثَلَةِ بَيْنَ الصَّحِيحَيْنِ وَالْمَعِيبِ، وَإِنْ كَانَ الْعَيْبُ فِي طَرَفِ الْجَانِي فَالْمَجْنِيّ عَلَيْهِ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ اقْتَصَّ، وَإِنْ شَاءَ أَخَذَ أَرْشَ الصَّحِيحِ؛ لِأَنَّ حَقَّهُ فِي الْمِثْلِ، وَهُوَ السَّلِيمُ، وَلَا يُمْكِنْهُ اسْتِيفَاءُ حَقِّهِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ مَعَ فَوَاتِ صِفَةِ السَّلَامَةِ، وَأَمْكَنَهُ الِاسْتِيفَاءُ مِنْ وَجْهٍ، وَلَا سَبِيلَ إلَى إلْزَامِ الِاسْتِيفَاءِ حَتْمًا لِمَا فِيهِ مِنْ إلْزَامِ اسْتِيفَاءِ حَقِّهِ نَاقِصًا، وَهَذَا لَا يَجُوزُ فَيُخَيَّرُ إنْ شَاءَ رَضِيَ بِقَدْرِ حَقِّهِ، وَاسْتَوْفَاهُ نَاقِصًا، وَإِنْ شَاءَ عَدَلَ إلَى بَدَلِ حَقِّهِ، وَهُوَ كَمَالُ الْأَرْشِ، كَمَنْ أَتْلَفَ عَلَى إنْسَانٍ شَيْئًا لَهُ مِثْلٌ، وَالْمُتْلَفُ جَيِّدٌ، فَانْقَطَعَ عَنْ أَيْدِي النَّاسِ، وَلَمْ يَبْقَ مِنْهُ إلَّا الرَّدِيءُ، وَإِنَّ صَاحِبَ الْحَقِّ يَكُونُ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ أَخَذَ الْمَوْجُودَ نَاقِصًا، وَإِنْ شَاءَ عَدَلَ إلَى قِيمَةِ الْجَيِّدِ لِمَا قُلْنَا كَذَا هَذَا (وَلَوْ أَرَادَ) الْمَجْنِيّ عَلَيْهِ أَنْ يَأْخُذَهُ وَيُضَمِّنَهُ النُّقْصَانَ هَلْ لَهُ ذَلِكَ؟ قَالَ أَصْحَابُنَا- رَحِمَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى: لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ.
(وَقَالَ) الشَّافِعِيُّ: لَهُ ذَلِكَ قَوْلُهُ: إنَّ حَقَّهُ فِي الْمِثْلِ وَلَا يُمْكِنُهُ اسْتِيفَاؤُهُ مِنْ هَذِهِ الْيَدِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ فَيَسْتَوْفِي حَقَّهُ مِنْهَا بِقَدْرِ مَا يُمْكِنُ، وَيُضَمِّنُهُ الْبَاقِيَ، كَمَا لَوْ أَتْلَفَ عَلَى آخَرَ شَيْئًا مِنْ الْمِثْلِيَّاتِ فَانْقَطَعَ عَنْ أَيْدِي النَّاسِ إلَّا قَدْرَ بَعْضِ حَقِّهِ إنَّهُ يَأْخُذُ الْقَدْرَ الْمَوْجُودِ مِنْ الْمُتْلَفِ وَيُضَمِّنُهُ الْبَاقِيَ، كَذَا هَذَا.
(وَلَنَا)
أَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى اسْتِيفَاءِ أَصْلِ حَقِّهِ، وَإِنَّمَا الْفَائِتُ هُوَ الْوَصْفُ، وَهُوَ صِفَةُ السَّلَامَةِ، فَإِذَا رَضِيَ بِاسْتِيفَاءِ أَصْلِ حَقِّهِ نَاقِصًا- كَانَ ذَلِكَ رِضًا مِنْهُ بِسُقُوطِ حَقِّهِ عَنْ الصِّفَةِ، كَمَا لَوْ أَتْلَفَ شَيْئًا مِنْ ذَوَاتِ الْأَمْثَالِ، وَهُوَ جَيِّدٌ، فَانْقَطَعَ عَنْ أَيْدِي النَّاسِ نَوْعُ الْجَيِّدِ، وَلَا يُوجَدُ إلَّا الرَّدِيءُ مِنْهُ إنَّهُ لَيْسَ لَهُ إلَّا أَنْ يَأْخُذَهُ، أَوْ قِيمَةُ الْجَيِّدِ كَذَلِكَ هَذَا بِخِلَافِ مَا ذَكَرَهُ مِنْ الْمَسْأَلَةِ؛ لِأَنَّ هُنَاكَ حَقَّ الْمُتْلَفِ عَلَيْهِ مُتَعَلِّقٌ بِمِثْلِ الْمُتْلِفِ بِكُلِّ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَائِهِ صُورَةً وَمَعْنًى، فَكَانَ لَهُ أَنْ يَسْتَوْفِيَ الْمَوْجُودَ، وَيَأْخُذَ قِيمَةَ الْبَاقِي، وَهَاهُنَا حَقُّ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ لَمْ يَتَعَلَّقْ إلَّا بِالْقَطْعِ مِنْ الْمِفْصَلِ دُونَ الْأَصَابِعِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ أَرَادَ أَنْ يَقْطَعَ الْأَصَابِعَ، وَيَبْرَأَ عَنْ الْكَفِّ لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ، فَلَمْ تَكُنْ الْأَصَابِعُ عَيْنَ حَقِّهِ، إنْ كَانَ الْبَعْضُ قَطْعَ الْأَصَابِعِ بِأَنْ كَانَتْ جَارِيَةً مَجْرَى الصِّفَةِ كَالْجَوْدَةِ فِي الْمَكِيلِ فَلَا يَكُونُ لَهُ أَنْ يُطَالِبَ بِشَيْءٍ آخَرَ كَمَا فِي تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ.
(وَلَوْ) ذَهَبَتْ الْجَارِحَةُ الْمُعَيَّنَةُ قَبْلَ أَنْ يَخْتَارَ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ، أَخَذَهَا أَوْ قَطَعَهَا قَاطِعٌ- بَطَلَ حَقُّ الْمَجْنِيّ عَلَيْهِ فِي الْقِصَاصِ لِفَوَاتِ مَحَلِّهِ (وَهَلْ يَجِبُ) الْأَرْشُ عَلَى الْجَانِي؟ فَالْكَلَامُ فِيهِ كَالْكَلَامِ فِيمَا إذَا قَطَعَ يَدًا صَحِيحَةً، وَهُوَ عَلَى التَّفْصِيلِ الَّذِي ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ أَنَّهَا إنْ سَقَطَتْ بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ أَوْ قُطِعَتْ ظُلْمًا لَا شَيْءَ عَلَيْهِ، وَلَوْ قُطِعَتْ بِحَقٍّ مِنْ قِصَاصٍ أَوْ سَرِقَةٍ فَعَلَيْهِ أَرْشُ الْيَدِ الْمَقْطُوعَةِ (وَعِنْدَ) الشَّافِعِيِّ- رَحِمَهُ اللَّهُ-: عَلَيْهِ الْأَرْشُ فِي الْوَجْهَيْنِ، وَالْكَلَامُ فِيهِ رَاجِعٌ إلَى أَصْلٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ، وَهُوَ أَنَّ مُوجِبَ الْعَمْدِ الْقِصَاصُ عَيْنًا عِنْدَنَا فِي النَّفْسِ، وَمَا دُونَهُ (وَعِنْدَهُ) أَحَدُهُمَا: غَيْرُ عَيْنٍ فِي قَوْلٍ، وَفِي قَوْلٍ الْقِصَاصُ عَيْنًا لَكِنْ مَعَ حَقِّ الْعُدُولِ إلَى الْمَالِ (وَقَدْ) ذَكَرْنَا هَذَا الْأَصْلَ بِفُرُوعِهِ فِي بَيَانِ حُكْمِ الْجِنَايَةِ عَلَى النَّفْسِ إلَّا أَنَّهُ إذَا كَانَ الْقَطْعُ بِحَقٍّ يَجِبُ الْأَرْشَ؛ لِأَنَّهُ قَضَى بِالطَّرَفِ حَقًّا مُسْتَحَقًّا عَلَيْهِ فَصَارَ كَأَنَّهُ قَائِمٌ وَتَعَذَّرَ اسْتِيفَاءُ الْقِصَاصِ لِعُذْرِ الْخَطَأِ وَغَيْرِهِ عَلَى مَا مَرَّ ذِكْرُهُ، وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فِي الصَّحِيحَةِ فَنَقُولُ: حَقُّ الْمَجْنِيّ عَلَيْهِ كَانَ مُتَعَلِّقًا بِالْيَدِ الْمُعَيَّنَةِ بِعَيْنِهَا، وَإِنَّمَا يَنْتَقِلُ عَنْهَا إلَى الْأَرْشِ عِنْدَ اخْتِيَارِهِ، فَإِذَا لَمْ يَخْتَرْ حَتَّى هَلَكَتْ بَقِيَ حَقُّهُ مُتَعَلِّقًا بِالْيَدِ، فَإِنْ قِيلَ: أَلَيْسَ أَنَّهُ كَانَ مُخَيَّرًا بَيْنَ الْقِصَاصِ وَالْأَرْشِ فَإِذَا فَاتَ أَحَدُهُمَا تَعَيَّنَ الْآخَرُ؟ قِيلَ: لَا بَلْ حَقُّهُ كَانَ فِي الْيَدِ عَلَى التَّعْيِينِ إلَّا أَنَّ لَهُ أَنْ يَعْدِلَ عَنْهُ إلَى بَدَلِهِ عِنْدَ الِاخْتِيَارِ، فَإِذَا هَلَكَ قَبْلَ الِاخْتِيَارِ بَقِيَ حَقُّهُ فِي الْيَدِ، فَإِذَا هَلَكَتْ فَقَدْ بَطَلَ مَحَلُّ الْحَقِّ، فَبَطَلَ الْحَقُّ أَصْلًا وَرَأْسًا، وَاَللَّهُ تَعَالَى عَزَّ وَجَلَّ- الْمُوَفِّقُ (وَلَوْ كَانَتْ) يَدُ الْقَاطِعِ صَحِيحَةً وَقْتَ الْقَطْعِ ثُمَّ شُلَّتْ بَعْدَهُ فَلَا حَقَّ لِلْمَقْطُوعِ فِي الْأَرْشِ؛ لِأَنَّ حَقَّهُ ثَبَتَ فِي الْيَدِ عَيْنًا بِالْقَطْعِ فَلَا يُنْتَقَلُ إلَى الْأَرْشِ بِالنُّقْصَانِ، كَمَا إذَا ذَهَبَ الْكُلُّ بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ أَنَّهُ يَسْقُطُ حَقُّهُ أَصْلًا وَلَا يَنْتَقِلُ إلَى الْأَرْشِ لِمَا قُلْنَا كَذَا هَذَا، وَلَا قِصَاصَ إلَّا فِيمَا يُقْطَعُ مِنْ الْمَفَاصِلِ مِفْصَلِ الزَّنْدِ، أَوْ مَفْصِلِ الْمِرْفَقِ، أَوْ مِفْصَلِ الْكَتِفِ فِي الْيَدِ، أَوْ مِفْصَلِ الْكَعْبِ، أَوْ مِفْصَلِ الرُّكْبَةِ، أَوْ مِفْصَلِ الْوِرْكِ فِي الرِّجْلِ، وَمَا كَانَ مِنْ غَيْرِ الْمَفَاصِلِ فَلَا قِصَاصَ فِيهِ كَمَا إذَا قُطِعَ مِنْ السَّاعِدِ أَوْ الْعَضُدِ أَوْ السَّاقِ أَوْ الْفَخِذِ؛ لِأَنَّهُ يُمْكِنُ اسْتِيفَاءُ الْمِثْلِ مِنْ الْمَفَاصِلِ، وَلَا يُمْكِنُ مِنْ غَيْرِهَا.
(وَلَيْسَ) فِي لَحْمِ السَّاعِدِ وَالْعَضُدِ وَالسَّاقِ وَالْفَخِذِ، وَلَا فِي الْأَلْيَةِ قِصَاصٌ، وَلَا فِي لَحْمِ الْخَدَّيْنِ، وَلَحْمِ الظَّهْرِ، وَالْبَطْنِ، وَلَا فِي جِلْدَةِ الرَّأْسِ، وَجِلْدَةِ الْيَدَيْنِ إذَا قُطِعَتْ لِتَعَذُّرِ اسْتِيفَاءِ الْمِثْلِ، وَلَا فِي اللَّطْمَةِ، وَالْوَكْزَةِ، وَالْوَجْأَةِ، وَالدَّقَّةِ لِمَا قُلْنَا، وَلَا يُؤْخَذُ الْعَدَدُ بِالْعَدَدِ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ مِمَّا يَجِبُ عَلَى أَحَدِهِمَا فِيهِ الْقِصَاصُ لَوْ انْفَرَدَ كَالِاثْنَيْنِ إذَا قَطَعَا يَدَ رَجُلٍ أَوْ رِجْلَهُ أَوْ إصْبَعَهُ أَوْ أَذْهَبَا سَمْعَهُ أَوْ بَصَرَهُ أَوْ قَلَعَا سِنًّا لَهُ أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ مِنْ الْجَوَارِحِ الَّتِي عَلَى الْوَاحِدِ مِنْهُمَا فِيهَا الْقِصَاصُ لَوْ انْفَرَدَ بِهِ فَلَا قِصَاصَ عَلَيْهِمَا، وَعَلَيْهِمَا الْأَرْشُ نِصْفَانِ.
وَكَذَلِكَ مَا زَادَ عَلَى الثَّلَاثِ مِنْ الْعَدَدِ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الِاثْنَيْنِ، وَلَا قِصَاصَ عَلَيْهِمْ، وَعَلَيْهِمْ الْأَرْشُ عَلَى عَدَدِهِمْ بِالسَّوَاءِ، وَهَذَا عِنْدَنَا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ يَجِبُ الْقِصَاصُ عَلَيْهِمْ وَإِنْ كَثُرُوا، كَمَا فِي النَّفْسِ، وَاحْتَجَّ بِمَا رُوِيَ أَنَّ رَجُلَيْنِ شَهِدَا بَيْنَ يَدَيْ سَيِّدِنَا عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ عَلَى رَجُلٍ بِالسَّرِقَةِ فَأَمَرَ بِقَطْعِ يَدِهِ ثُمَّ جَاءَا بِآخَرَ وَقَالَا أُوهِمْنَا إنَّمَا السَّارِقُ هَذَا يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ فَقَالَ سَيِّدُنَا عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ: لَا أُصَدِّقُكُمَا عَلَى هَذَا، وَأُغَرِّمُكُمَا دِيَةَ الْأَوَّلِ، وَلَوْ عَلِمْتَ أَنَّكُمَا تَعَمَّدْتُمَا لَقَطَعْتُ أَيْدِيَكُمَا، فَقَدْ اعْتَقَدَ سَيِّدُنَا عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ قَطْعَ الْيَدَيْنِ بِيَدٍ وَاحِدَةٍ، وَإِنَّمَا قَالَ ذَلِكَ بِمَحْضَرٍ مِنْ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ، وَلَمْ يُنْقَلْ أَنَّهُ أَنْكَرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ مِنْهُمْ فَيَكُونُ إجْمَاعًا، وَلِأَنَّ الْيَدَ تَابِعَةٌ لِلنَّفْسِ ثُمَّ الْأَنْفُسُ تُقْتَلُ بِنَفْسٍ وَاحِدَةٍ فَكَذَا الْأَيْدِي تُقْطَعُ بِيَدٍ وَاحِدَةٍ؛ لِأَنَّ حُكْمَ التَّبَعِ حُكْمُ الْأَصْلِ.
(وَلَنَا) أَنَّ الْمُمَاثَلَةَ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ مُعْتَبَرَةٌ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ الدَّلَائِلِ، وَلَا مُمَاثَلَةَ بَيْنَ الْأَيْدِي، وَيَدٍ وَاحِدَةٍ لَا فِي الذَّاتِ، وَلَا فِي الْمَنْفَعَةِ، وَلَا فِي الْفِعْلِ.
(أَمَّا) فِي الذَّاتِ فَلَا شَكَّ فِيهِ، لِأَنَّهُ لَا مُمَاثَلَةَ بَيْنَ الْعَدَدِ بَيْنَ الْفَرْدِ مِنْ حَيْثُ الذَّاتُ يُحَقِّقُهُ أَنَّهُ لَا تُقْطَعُ الصَّحِيحَةُ بِالشَّلَّاءِ، وَالْفَائِتُ هُوَ الْمُمَاثَلَةُ مِنْ حَيْثُ الْوَصْفُ فَقَطْ فَفَوَاتُ الْمُمَاثَلَةِ فِي الْوَصْفِ لَمَّا مَنَعَ جَرَيَانَ الْقِصَاصِ فَفَوَاتُهَا فِي الذَّاتِ أَوْلَى.
(وَأَمَّا) فِي الْمَنْفَعَةِ فَلِأَنَّ مِنْ الْمَنَافِعِ مَا لَا يَتَأَتَّى إلَّا بِالْيَدَيْنِ كَالْكِتَابَةِ، وَالْخِيَاطَةِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ.
وَكَذَا مَنْفَعَةُ الْيَدَيْنِ أَكْثَرُ مِنْ مَنْفَعَةِ يَدٍ وَاحِدَةٍ عَادَةً.
(وَأَمَّا) فِي الْفِعْلِ فَلِأَنَّ الْمَوْجُودَ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا قَطْعُ بَعْضِ الْيَدِ كَأَنَّهُ وَضَعَ أَحَدُهُمَا السِّكِّينَ مِنْ جَانِبٍ، وَالْآخَرَ مِنْ جَانِبٍ آخَرَ، وَالْجَزَاءُ قَطْعُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، وَقَطْعُ كُلِّ الْيَدِ أَكْثَرُ مِنْ قَطْعِ بَعْضِ الْيَدِ، وَانْعِدَامُ الْمُمَاثَلَةِ مِنْ وَجْهٍ تَكْفِي لِجَرَيَانِ الْقِصَاصِ كَيْفَ وَقَدْ انْعَدَمَتْ مِنْ وُجُوهٍ؟ وَأَمَّا قَوْلُ سَيِّدِنَا عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَلَا حُجَّةَ لَهُ فِيهِ، لِأَنَّهُ إنَّمَا قَالَ ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ السِّيَاسَةِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ أَضَافَ الْقَطْعَ إلَى نَفْسِهِ، وَذَا لَا يَكُونُ إلَّا بِطَرِيقِ السِّيَاسَةِ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ.
وَلَوْ قَطَعَ رَجُلٌ يَمِينَا رَجُلَيْنِ تُقْطَعُ يَمِينُهُ ثُمَّ إنْ حَضَرَا جَمِيعًا فَلَهُمَا أَنْ يَقْطَعَا يَمِينَهُ، وَيَأْخُذَا مِنْهُ دِيَةَ يَدٍ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ، وَهَذَا قَوْلُ أَصْحَابِنَا- رَحِمَهُمُ اللَّهُ-.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ- رَحِمَهُ اللَّهُ: إذَا كَانَ عَلَى التَّعَاقُبِ يُقْطَعُ لِلْأَوَّلِ، وَيَغْرَمُ الدِّيَةَ لِلثَّانِي كَمَا قَالَ فِي الْقَتْلِ، وَإِنْ كَانَ عَلَى الِاجْتِمَاعِ يُقْرَعُ بَيْنَهُمَا فَيَقْطَعُ لِمَنْ خَرَجَتْ قُرْعَتُهُ، وَيَغْرَمُ لِلْآخَرِ الدِّيَةِ كَمَا قَالَ فِي النَّفْسِ.
(وَجْهُ) قَوْلِهِ أَنَّهُ إذَا قَطَعَ عَلَى التَّرْتِيبِ صَارَتْ يَدُهُ حَقًّا لِلْأَوَّلِ فَلَا تَصِيرُ حَقًّا لِلثَّانِي فَتَجِبُ الدِّيَةُ لِلثَّانِي، وَإِذَا قَطَعَ الْيَدَيْنِ عَلَى الِاجْتِمَاعِ فَقَدْ صَارَتْ يَدُهُ حَقًّا لِأَحَدِهِمَا غَيْرَ عَيْنٍ، وَتَتَعَيَّنُ بِالْقُرْعَةِ.
(وَلَنَا) أَنَّهُمَا اسْتَوَيَا فِي سَبَبِ اسْتِحْقَاقِ الْقِصَاصِ فَيَسْتَوِيَانِ فِي الِاسْتِحْقَاقِ، وَدَلِيلُ الْوَصْفِ أَنَّ سَبَبَ الِاسْتِحْقَاقِ قَطْعُ الْيَدِ، وَقَدْ وُجِدَ قَطْعُ الْيَدِ فِي حَقِّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فَيَسْتَحِقُّ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا قَطْعَ يَدِهِ، وَلَا يَحْصُلُ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي يَدٍ وَاحِدَةٍ إلَّا قَطْعُ بَعْضِهَا فَلَمْ يَسْتَوْفِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالْقَطْعِ إلَّا بَعْضَ حَقِّهِ فَيُسْتَوْفَى الْبَاقِي مِنْ الْأَرْشِ، وَلِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لَمَّا اسْتَوْفَى بَعْضَ حَقِّهِ بِقَطْعِ الْيَدِ صَارَ الْقَاطِعُ قَاضِيًا بِبَعْضِ يَدِهِ حَقًّا مُسْتَحَقًّا عَلَيْهِ فَيُجْعَلُ كَأَنَّ يَدَهُ قَائِمَةٌ، وَتَعَذَّرَ اسْتِيفَاءُ الْقِصَاصِ لِعُذْرٍ فَتَجِبُ الدِّيَةُ (وَقَوْلُهُ) صَارَتْ يَدُهُ حَقًّا لِمَنْ لَهُ الْقِصَاصُ مَمْنُوعٌ فَإِنَّ مِلْكَ الْقِصَاصِ لَيْسَ مِلْكَ الْمَحَلِّ بَلْ هُوَ مِلْكُ الْفِعْلِ، وَهُوَ إطْلَاقُ الِاسْتِيفَاءِ؛ لِأَنَّ حُرِّيَّةَ مَنْ عَلَيْهِ تَمْنَعُ ثُبُوتَ الْمِلْكِ؛ لِأَنَّهَا تُنْبِئُ عَنْ الْخُلُوصِ.
وَالْمِلْكُ فِي الْمَحَلِّ بِثُبُوتٍ فِيهِ فَيُنَافِيهِ الْخُلُوصُ (وَالدَّلِيلُ) عَلَيْهِ أَنَّهُ لَوْ قُطِعَتْ يَدُهُ بِغَيْرِ حَقٍّ ثَابِتٍ كَانَتْ الدِّيَةُ لَهُ وَلَوْ صَارَتْ يَدُهُ مَمْلُوكَةً لِمَنْ لَهُ الْقِصَاصُ لَكَانَتْ الدِّيَةُ لَهُ دَلَّ أَنَّ مِلْكَ الْقِصَاصِ لَيْسَ هُوَ مِلْكُ الْمَحَلِّ بَلْ مِلْكُ الْفِعْلِ، وَهُوَ إطْلَاقُ الِاسْتِيفَاءِ، وَلَا تَنَافِيَ فِيهِ فَإِطْلَاقُ الِاسْتِيفَاءِ لِلْأَوَّلِ لَا يَمْنَعُ إطْلَاقَ اسْتِيفَاءِ الثَّانِي.
وَهَذَا بِخِلَافِ النَّفْسِ أَنَّ الْوَاحِدَ يُقْتَلُ بِالْجَمَاعَةِ اكْتِفَاءً؛ لِأَنَّ هُنَاكَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ اسْتَوْفَى حَقَّهُ عَلَى الْكَمَالِ؛ لِأَنَّ حَقَّهُ فِي الْقَتْلِ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ اسْتَوْفَى الْقَتْلَ بِكَمَالِهِ لِمَا ذَكَرْنَا فِي الْجِنَايَةِ عَلَى النَّفْسِ فِيمَا تَقَدَّمَ، وَإِنْ حَضَرَ أَحَدُهُمَا- وَالْآخَرُ غَائِبٌ- فَلِلْحَاضِرِ أَنْ يَقْتَصَّ، وَلَا يَنْتَظِرَ الْغَائِبَ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ حَقَّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ثَابِتٌ فِي كُلِّ الْيَدِ، وَإِنَّمَا التَّمَانُعُ فِي اسْتِيفَاءِ الْكُلِّ بِحُكْمِ التَّزَاحُمِ بِحُكْمِ الْمُشَارَكَةِ فِي الِاسْتِيفَاءِ، فَإِذَا كَانَ أَحَدُهُمَا غَائِبًا فَلَا يُزَاحِمْ الْحَاضِرُ فَكَانَ لَهُ أَنْ يَسْتَوْفِيَ كَأَحَدِ الشَّفِيعَيْنِ إذَا حَضَرَ يُقْضَى لَهُ بِالشُّفْعَةِ فِي كُلِّ الْمَبِيعِ (وَلِأَنَّ) حَقَّ الْحَاضِرِ إذَا كَانَ ثَابِتًا فِي كُلِّ الْيَدِ، وَأَرَادَ الِاسْتِيفَاءَ، وَالْغَائِبُ قَدْ يَحْضُرُ وَقَدْ لَا يَحْضُرُ، وَقَدْ يُطَالِبُ بَعْضَ الْحُضُورِ، وَقَدْ يَعْفُو فَلَا يَجُوزُ تَأْخِيرُ حَقِّ الْحَاضِرِ فِي الِاسْتِيفَاءِ وَالْمَنْعِ مِنْهُ لِلْحَالِ بَعْدَ طَلَبِهِ لِأَمْرٍ مُحْتَمَلٍ، وَلِهَذَا قُضِيَ بِالشُّفْعَةِ لِأَحَدِ الشَّفِيعَيْنِ إذَا حَضَرَ وَطَلَبَ، وَلَا يُنْتَظَرُ حُضُورُ الْغَائِبِ كَذَا هَذَا.
وَلِلْآخَرِ دِيَةُ يَدِهِ عَلَى الْقَاطِعِ، لِأَنَّهُ تَعَذَّرَ اسْتِيفَاءُ حَقِّهِ بَعْدَ ثُبُوتِهِ فَيُصَارُ إلَى الْبَدَلِ وَلِأَنَّ الْقَاطِعَ قَضَى بِهِ حَقًّا مُسْتَحَقًّا عَلَيْهِ فَيَلْزَمُهُ الدِّيَةُ، وَإِنْ عَفَا أَحَدُهُمَا بَطَلَ حَقُّهُ.
وَكَانَ لِلْآخَرِ الْقِصَاصُ إذَا كَانَ الْعَفْوُ قَبْلَ قَضَاءِ الْقَاضِي بِالْإِجْمَاعِ؛ لِأَنَّ حَقَّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ثَابِتٌ فِي الْيَدِ عَلَى الْكَمَالِ فَالْعَفْوُ مِنْ أَحَدِهِمَا لَا يُؤَثِّرُ فِي حَقِّ الْآخَرِ كَمَا فِي الْقِصَاصِ فِي النَّفْسِ.
وَكَذَلِكَ لَوْ عَدَا أَحَدُهُمَا عَلَى الْقَاطِعِ فَقَطَعَ يَدَهُ فَقَدْ اسْتَوْفَى حَقَّهُ فَلِلْآخَرِ الدِّيَةُ لِمَا ذَكَرْنَا.
(وَأَمَّا) إذَا قَضَى الْقَاضِي بِالْقِصَاصِ بَيْنَهُمَا ثُمَّ عَفَا أَحَدُهُمَا فَلِلْآخَرِ أَنْ يَسْتَوْفِيَ الْقِصَاصَ فِي قَوْلِهِمَا اسْتِحْسَانًا (وَقَالَ) مُحَمَّدٌ- رَحِمَهُ اللَّهُ: إذَا قَضَى الْقَاضِي بِالْقِصَاصِ فِي الْيَدِ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ وَبِدِيَةِ الْيَدِ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ ثُمَّ عَفَا أَحَدُهُمَا- بَطَلَ الْقِصَاصُ.
(وَجْهُ) قَوْلِهِ إنَّ حَقَّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا- وَإِنْ كَانَ ثَابِتًا فِي كُلِّ الْيَدِ لَكِنَّ الْقَاضِيَ لَمَّا قَضَى بِالْقِصَاصِ بَيْنَهُمَا فَقَدْ أَثْبَتَ الشَّرِكَةَ بَيْنَهُمَا فَصَارَ حَقُّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي الْبَعْضِ، فَإِذَا عَفَا أَحَدُهُمَا سَقَطَ الْبَعْضُ، وَلَا يَتَمَكَّنُ الْآخَرُ مِنْ اسْتِيفَاءِ الْكُلِّ.
(وَجْهُ) قَوْلِهِمَا أَنَّ قَضَاءَ الْقَاضِي بِالشَّرِكَةِ لَمْ يُصَادِفْ مَحَلَّهُ؛ لِأَنَّ الشَّرْعَ مَا وَرَدَ بِوُجُوبِ الْقَطْعِ فِي بَعْضِ الْيَدِ فَيُلْحَقُ بِالْعَدَمِ أَوْ يُجْعَلُ مَجَازًا عَنْ الْفَتْوَى كَأَنَّهُ أَفْتَى بِمَا يَجِبُ لَهُمَا، وَهُوَ أَنْ يَجْتَمِعَا عَلَى الْقَطْعِ، وَيَأْخُذَ الدِّيَةَ بَيْنَهُمَا فَكَانَ عَفْوُ أَحَدِهِمَا بَعْدَ الْقَضَاءِ كَعَفْوِهِ قَبْلَهُ وَلَوْ قَضَى الْقَاضِي بِالدِّيَةِ بَيْنَهُمَا فَقَبَضَاهَا ثُمَّ عَفَا أَحَدُهُمَا لَمْ يَكُنْ لِلْآخَرِ الْقِصَاصُ وَيَنْقَلِبُ نَصِيبُهُ مَالًا؛ لِأَنَّهُمَا لَمَّا قَبَضَا الدِّيَةَ فَقَدْ مَلَكَاهَا، وَثُبُوتُ الْمِلْكِ فِي الدِّيَةِ يَقْتَضِي أَنْ لَا يَبْقَى الْحَقُّ فِي كُلِّ الْيَدِ فَسَقَطَ حَقُّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَنْ نِصْفِ الْيَدِ، فَإِذَا عَفَا أَحَدُهُمَا لَا يَثْبُتُ لِلْآخَرِ وِلَايَةُ اسْتِيفَاءِ كُلِّ الْيَدِ (وَكَذَلِكَ) لَوْ أَخَذَ بِالدِّيَةِ رَهْنًا؛ لِأَنَّ قَبْضَ الرَّهْنِ قَبْضُ اسْتِيفَاءٍ؛ لِأَنَّ الدَّيْنَ كَأَنَّهُ فِي الرَّهْنِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ إذَا هَلَكَ يَسْقُطُ الدَّيْنُ فَصَارَ قَبْضُهُمَا الرَّهْنَ كَقَبْضِهِمَا الدَّيْنَ (وَلَوْ) أَخَذَ بِالدِّيَةِ كَفِيلًا ثُمَّ عَفَا أَحَدُهُمَا فَلِلْآخَرِ الْقِصَاصُ، لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي الْكَفَالَةِ مَعْنَى الِاسْتِيفَاءِ بَلْ هُوَ لِلتَّوَثُّقِ لِجَانِبِ الْوُجُوبِ فَكَانَ الْحُكْمُ بَعْدَ الْكَفَالَةِ كَالْحُكْمِ قَبْلَهَا.
(وَلَوْ قَطَعَ) مِنْ رَجُلٍ يَدَيْهِ أَوْ رِجْلَيْهِ قُطِعَتْ يَدَاهُ وَرِجْلَاهُ؛ لِأَنَّ اسْتِيفَاءَ الْمِثْلِ مُمْكِنٌ.
وَلَوْ قَطَعَ مِنْ رَجُلٍ يَمِينَهُ، وَمِنْ آخَرَ يَسَارَهُ قُطِعَتْ يَمِينُهُ لِصَاحِبِ الْيَمِينِ، وَيَسَارُهُ لِصَاحِبِ الْيَسَارِ؛ لِأَنَّ تَحْقِيقَ الْمُمَاثَلَةِ فِيهِ، وَأَنَّهُ مُمْكِنٌ (فَإِنْ قِيلَ) الْقَاطِعُ مَا أَبْطَلَ عَلَيْهِمَا مَنْفَعَةَ الْجِنْسَيْنِ فَكَيْفَ تَبْطُلُ عَلَيْهِ مَنْفَعَةُ الْجِنْسِ؟ فَالْجَوَابُ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَا اسْتَحَقَّ عَلَيْهِ إلَّا قَطْعَ يَدٍ وَاحِدَةٍ، وَلَيْسَ فِي قَطْعِ يَدٍ وَاحِدَةٍ تَفْوِيتُ مَنْفَعَةِ الْجِنْسِ فَكَانَ الْجَزَاءُ مِثْلَ الْجِنَايَةِ إلَّا أَنَّ فَوَاتَ مَنْفَعَةِ الْجِنْسِ عِنْدَ اجْتِمَاعِ الْفِعْلَيْنِ حَصَلَ ضَرُورَةً غَيْرَ مُضَافٍ إلَيْهِمَا.
وَلَوْ قَطَعَ أُصْبُعَ رَجُلٍ كُلَّهَا مِنْ الْمَفْصِلِ ثُمَّ قَطَعَ يَدَ آخَرَ أَوْ يَدًا بِالْيَدِ ثُمَّ يَقْطَعُ الْأُصْبُعَ، وَذَلِكَ كُلُّهُ فِي يَدٍ وَاحِدَةٍ فِي الْيَمِينِ أَوْ فِي الْيَسَارِ فَلَا يَخْلُو (إمَّا) أَنْ جَاءَا جَمِيعًا يَطْلُبَانِ الْقِصَاصَ، وَإِمَّا إنْ جَاءَا مُتَفَرِّقَيْنِ فَإِنْ جَاءَا جَمِيعًا يُبْدَأُ بِالْقِصَاصِ فِي الْأُصْبُعِ فَتُقْطَعُ الْأُصْبُعُ بِالْأُصْبُعِ ثُمَّ يُخَيَّرُ صَاحِبُ الْيَدِ فَإِنْ شَاءَ قَطَعَ مَا بَقِيَ، وَإِنْ شَاءَ أَخَذَ دِيَةَ يَدِهِ مِنْ مَالِ الْقَاطِعِ؛ لِأَنَّ حَقَّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي مِثْلِ مَا قُطِعَ مِنْهُ فَحَقُّ صَاحِبِ الْيَدِ فِي قَطْعِ الْيَدِ، وَحَقُّ صَاحِبِ الْأُصْبُعِ فِي قَطْعِ الْأُصْبُعِ فَيَجِبُ إيفَاءُ حَقِّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ، وَذَلِكَ فِي الْبِدَايَةِ بِالْقِصَاصِ فِي الْأُصْبُعِ، لِأَنَّا لَوْ بَدَأْنَا بِالْقِصَاصِ فِي الْيَدِ لَبَطَلَ حَقُّ صَاحِبِ الْأُصْبُعِ فِي الْقِصَاصِ أَصْلًا وَرَأْسًا، وَلَوْ بَدَأْنَا بِالْقِصَاصِ فِي الْأُصْبُعِ لَمْ يَبْطُلْ حَقُّ الْآخَرِ فِي الْقِصَاصِ أَصْلًا وَرَأْسًا، لِأَنَّهُ يَتَمَكَّنُ مِنْ اسْتِيفَائِهِ مَعَ النُّقْصَانِ فَكَانَتْ الْبِدَايَةُ بِالْأُصْبُعِ أَوْلَى، وَإِنَّمَا خُيِّرَ صَاحِبُ الْيَدِ بَعْدَ قَطْعِ الْأُصْبُعِ؛ لِأَنَّ الْكَفَّ صَارَتْ مَعِيبَةً بِقَطْعِ الْأُصْبُعِ فَوَجَدَ حَقَّهُ نَاقِصًا فَيَثْبُتُ لَهُ الْخِيَارُ كَالْأَشَلِّ إذَا قَطَعَ يَدَ الصَّحِيحِ.
وَإِنْ جَاءَا مُتَفَرِّقَيْنِ فَإِنْ جَاءَ صَاحِبُ الْيَدِ- وَصَاحِبُ الْأُصْبُعِ غَائِبٌ- تُقْطَعْ الْيَدُ لِصَاحِبِ الْيَدِ؛ لِأَنَّ حَقَّ صَاحِبَ الْيَدِ ثَابِتٌ فِي الْيَدِ فَلَا يَجُوزُ مَنْعُهُ مِنْ اسْتِيفَاءِ حَقِّهِ لِحَقِّ غَائِبٍ يُحْتَمَلُ أَنْ يَحْضُرَ وَيُطَالَبُ وَيُحْتَمَلُ أَنْ لَا يَحْضُرَ، وَلَا يُطَالِبَ فَإِنْ جَاءَ صَاحِبُ الْأُصْبُعِ بَعْدَ ذَلِكَ أَخَذَ الْأَرْشَ لِتَعَذُّرِ اسْتِيفَاءِ حَقِّهِ عَلَيْهِ بَعْدَ ثُبُوتِهِ فَيَأْخُذُ بَدَلَهُ وَلِأَنَّ الْقَاطِعَ قَضَى بِطَرَفِهِ حَقًّا مُسْتَحَقًّا عَلَيْهِ فَصَارَ كَأَنَّهُ قَائِمٌ، وَتَعَذَّرَ الِاسْتِيفَاءُ لِمَانِعٍ فَيَلْزَمُهُ الْأَرْشُ، وَإِنْ جَاءَ صَاحِبُ الْأُصْبُعِ، وَصَاحِبُ الْيَدِ غَائِبٌ تُقْطَعُ الْأُصْبُعُ لِصَاحِبِ الْأُصْبُعِ لِمَا ذَكَرْنَا فِي صَاحِبِ الْيَدِ ثُمَّ إذَا جَاءَ صَاحِبُ الْيَدِ بَعْدَ ذَلِكَ أَخَذَ الْأَرْشَ لِمَا قُلْنَا.
وَلَوْ قَطَعَ أُصْبَعَ رَجُلٍ مِنْ مَفْصِلٍ ثُمَّ قَطَعَ أُصْبَعَ رَجُلٍ آخَرَ مِنْ مَفْصِلَيْنِ ثُمَّ قَطَعَ أُصْبَعَ آخَرَ كُلَّهَا، وَذَلِكَ كُلُّهُ فِي أُصْبُعٍ وَاحِدَةٍ فَهُوَ عَلَى التَّفْصِيلِ الَّذِي ذَكَرْنَا أَنَّ الْأَمْرَ لَا يَخْلُو (إمَّا) إنْ جَاءُوا جَمِيعًا يَطْلُبُونَ الْقِصَاصَ، وَإِمَّا إنْ جَاءُوا مُتَفَرِّقِينَ: فَإِنْ جَاءُوا جَمِيعًا يُبْدَأُ بِقَطْعِ الْمَفْصِلِ الْأَعْلَى لِصَاحِبِ الْأَعْلَى ثُمَّ يُخَيِّرُ صَاحِبُ الْمَفْصِلَيْنِ فَإِنْ شَاءَ اسْتَوْفَى الْأَوْسَطَ بِحَقِّهِ كُلِّهِ، وَلَا شَيْءَ لَهُ مِنْ الْأَرْشِ، وَإِنْ شَاءَ أَخَذَ ثُلُثَيْ دِيَةَ أُصْبُعِهِ مِنْ مَالِهِ ثُمَّ يُخَيِّرُ صَاحِبُ الْأُصْبُعِ فَإِنْ شَاءَ أَخَذَ مَا بَقِيَ بِأُصْبُعِهِ، وَإِنْ شَاءَ أَخَذَ دِيَةَ أُصْبُعِهِ مِنْ مَالِ الَّذِي قَطَعَهَا، وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ حَقَّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي مِثْلِ مَا قُطِعَ مِنْهُ فَيَجِبُ إيفَاءِ حُقُوقِهِمْ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ، وَذَلِكَ فِي الْبِدَايَةِ بِمَا لَا يُسْقِطُ حَقَّ بَعْضِهِمْ، وَهُوَ أَنْ يُبْدَأَ بِقَطْعِ الْمَفْصِلِ الْأَعْلَى لِصَاحِبِ الْأَعْلَى؛ لِأَنَّ الْبِدَايَةَ لَا تُبْطِلُ حَقَّ الْبَاقِينَ فِي الْقِصَاصِ أَصْلًا لِإِمْكَانِ اسْتِيفَاءِ حَقَّيْهِمَا مَعَ النُّقْصَانِ، وَفِي الْبِدَايَةِ بِالْقِصَاصِ فِي الْأُصْبُعِ إبْطَالُ حَقِّ الْبَاقِينَ أَصْلًا، وَرُبَّ رَجُلٍ يَخْتَارُ الْقِصَاصَ- وَإِنْ كَانَ نَاقِصًا- تَشَفِّيًا لِلصَّدْرِ، وَإِذَا قُطِعَ مِنْهُ الْمَفْصِلُ الْأَعْلَى لِصَاحِبِ الْأَعْلَى يُخَيِّرُ الْبَاقِيَانِ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَجَدَ حَقَّهُ نَاقِصًا لِحُدُوثِ الْعَيْبِ بِالطَّرَفِ.
وَإِنْ جَاءُوا مُتَفَرِّقِينَ فَإِنْ جَاءَ صَاحِبُ الْأُصْبُعِ أَوَّلًا تُقْطَعُ لَهُ الْأُصْبُعُ لِمَا ذَكَرْنَا فِي الْمَسْأَلَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ، فَإِذَا جَاءَ الْبَاقِيَانِ بَعْدَ ذَلِكَ يُقْضَى لَهُمَا بِالْأَرْشِ، لِصَاحِبِ الْمَفْصِلِ الْأَعْلَى ثُلُثُ دِيَةِ الْأُصْبُعِ، وَلِصَاحِبِ الْمَفْصِلَيْنِ ثُلُثَا دِيَةِ الْأُصْبُعِ لِمَا قُلْنَا.
وَإِنْ جَاءَ صَاحِبُ الْمَفْصِلَيْنِ أَوَّلًا يُقْطَعُ لَهُ الْمَفْصِلَانِ لِمَا ذَكَرْنَا فِي الْمَسْأَلَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ، وَيُقْضَى لِصَاحِبِ الْمَفْصِلِ الْأَعْلَى بِالْأَرْشِ لِمَا مَرَّ، وَصَاحِبُ الْأُصْبُعِ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ أَخَذَ مَا بَقِيَ وَاسْتَوْفَى حَقَّهُ نَاقِصًا، وَإِنْ شَاءَ أَخَذَ دِيَةَ الْأُصْبُعِ لِمَا مَرَّ.
وَإِنْ جَاءَ صَاحِبُ الْأَعْلَى أَوَّلًا فَهُوَ كَمَا إذَا جَاءُوا مَعًا، وَقَدْ ذَكَرنَا حُكْمَهُ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ.
وَلَوْ قَطَعَ كَفَّ رَجُلٍ مِنْ مَفْصِلٍ ثُمَّ قَطَعَ يَدَ آخَرَ مِنْ الْمِرْفَقِ أَوْ بَدَأَ بِالْمِرْفَقِ ثُمَّ بِالْكَفِّ، وَهُمَا فِي يَدٍ وَاحِدَةٍ فِي الْيَمِينِ أَوْ فِي الْيَسَارِ ثُمَّ اجْتَمَعَا فَإِنَّ الْكَفَّ يُقْطَعُ لِصَاحِبِ الْكَفِّ ثُمَّ يُخَيِّرُ صَاحِبُ الْمِرْفَقِ فَإِنْ شَاءَ قَطَعَ مَا بَقِيَ بِحَقِّهِ كُلِّهِ، وَإِنْ شَاءَ أَخَذَ الْأَرْشَ لِمَا بَيَّنَّا.
وَإِنْ جَاءَ أَحَدُهُمَا، وَالْآخَرُ غَائِبٌ فَإِنْ جَاءَ صَاحِبُ الْكَفِّ قُطِعَ لَهُ الْكَفُّ، وَلَا يُنْتَظَرُ الْغَائِبُ لِمَا مَرَّ ثُمَّ إذَا جَاءَ صَاحِبُ الْمِرْفَقِ أَخَذَ الْأَرْشَ، وَإِنْ جَاءَ صَاحِبُ الْمِرْفَقِ أَوَّلًا يُقْطَعُ لَهُ الْمِرْفَقُ أَوَّلًا ثُمَّ إذَا جَاءَ صَاحِبُ الْيَدِ بَعْدَ ذَلِكَ يَأْخُذُ أَرْشَ الْيَدِ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ.
وَلَوْ قَطَعَ الْمَفْصِلَ الْأَعْلَى مِنْ سَبَّابَةِ رَجُلٍ ثُمَّ عَادَ فَقَطَعَ الْمَفْصِلَ الثَّانِيَ مِنْهَا فَعَلَيْهِ الْقِصَاصُ مِنْ الْمَفْصِلِ الْأَوَّلِ، وَلَا قِصَاصَ عَلَيْهِ فِي الْمَفْصِلِ الثَّانِي وَعَلَيْهِ قِيمَةُ الْأَرْشِ.
وَكَذَلِكَ لَوْ قَطَعَ أُصْبُعَ رَجُلٍ مِنْ أَصْلِهَا ثُمَّ قَطَعَ الْكَفَّ الَّتِي مِنْهَا الْأُصْبُعُ كَانَ عَلَيْهِ الْقِصَاصُ فِي الْأُصْبُعِ، وَلَا قِصَاصَ عَلَيْهِ فِي الْكَفِّ وَعَلَيْهِ الْأَرْشُ فِي الْكَفِّ نَاقِصَةً بِأُصْبُعٍ.
وَكَذَلِكَ لَوْ قَطَعَ يَدَ رَجُلٍ، وَهِيَ صَحِيحَةٌ ثُمَّ قَطَعَ سَاعِدَهُ مِنْ الْمِرْفَقِ مِنْ الْيَدِ الَّتِي قَطَعَ مِنْهَا الْكَفَّ عَلَيْهِ فِي الْيَدِ الْقِصَاصُ، وَلَا قِصَاصَ عَلَيْهِ فِي السَّاعِدِ بَلْ فِيهِ أَرْشُ حُكُومَةٍ كَذَا رُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَلَمْ يُفَصِّلْ بَيْنَ مَا إذَا كَانَتْ الْجِنَايَةُ الثَّانِيَةُ بَعْدَ بُرْءِ الْأُولَى أَوْ قَبْلَهَا.
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ- رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى- إذَا كَانَتْ الثَّانِيَةُ بَعْدَ بُرْءِ الْأُولَى فَهُمَا جِنَايَتَانِ مُتَفَرِّقَتَانِ، وَإِنْ كَانَتْ قَبْلَ الْبُرْءِ فَهِيَ جِنَايَةٌ وَاحِدَةٌ، ذَكَرَ قَوْلَهُمَا فِي الزِّيَادَاتِ (وَجْهُ) قَوْلِهِمَا أَنَّ الْجِنَايَتَيْنِ إذَا كَانَتَا قَبْلَ الْبُرْءِ فَهُمَا فِي حُكْمِ جِنَايَةٍ وَاحِدَةٍ بِدَلِيلِ أَنَّ مَنْ قَطَعَ يَدَ رَجُلٍ خَطَأً ثُمَّ قَتَلَهُ وَجَبَتْ عَلَيْهِ دِيَةٌ وَاحِدَةٌ فَصَارَ كَأَنَّهُ قَطَعَ الْمَفْصِلَيْنِ مَعًا بِضَرْبَةٍ وَاحِدَةٍ فَيَجِبُ الْقِصَاصُ فِيهِمَا، وَإِذَا بَرِئَتْ الْأُولَى فَقَدْ اسْتَقَرَّتْ وَاسْتَقَرَّ حُكْمُهَا فَكَانَتْ الثَّانِيَةُ جِنَايَةً مُفْرَدَةً فِي مَفْصِلٍ مُفْرَدٍ فَتُفْرَدُ بِحُكْمِهَا فَيَجِبُ الْقِصَاصُ فِي الْأُولَى وَالْأَرْشُ فِي الثَّانِيَةِ، وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ وَقْتَ قَطْعِ الْمَفْصِلِ الْأَعْلَى كَانَتْ الْأُصْبُعَانِ صَحِيحَتَيْنِ أَعْنِي أُصْبُعَ الْقَاطِعِ وَالْمَقْطُوعِ لَهُ الْمَفْصِلُ أَوَّلًا، فَكَانَتْ بَيْنَ الْأُصْبُعَيْنِ مُمَاثَلَةٌ فَأَمْكَنَ اسْتِيفَاءُ الْقِصَاصِ عَلَى وَجْهِ الْمُمَاثَلَةِ، وَلَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمَا مُمَاثَلَةٌ وَقْتَ قَطْعِ الْمَفْصِلِ الثَّانِي؛ لِأَنَّ أُصْبُعَ الْقَاطِعِ كَامِلٌ وَقْتَ الْقَطْعِ فَيَكُونُ اسْتِيفَاءَ الْكَامِلِ بِالنَّاقِصِ، وَهَذَا لَا يَجُوزُ فَإِنْ قِيلَ: وَقْتُ قَطْعِ الْمَفْصِلِ الثَّانِي كَانَ الْقِصَاصُ مُسْتَحَقًّا فِي الْمَفْصِلِ الْأَعْلَى مِنْ الْقَاطِعِ، وَالْمُسْتَحَقُّ كَالْمُسْتَوْفَى فَكَانَ اسْتِيفَاءَ النَّاقِصِ بِالنَّاقِصِ، فَالْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ وَجْهَيْنِ؛ أَحَدُهُمَا إنَّ نَفْسَ الِاسْتِحْقَاقِ لَا يُوجِبُ النُّقْصَانَ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ جَاءَ الْأَجْنَبِيُّ وَقَطَعَ ذَلِكَ الْمَفْصِلَ عَمْدًا وَجَبَ الْقِصَاصُ عَلَيْهِ.
وَلَوْ ثَبَتَ الْقِصَاصُ بِنَفْسِ الِاسْتِحْقَاقِ لَمَا وَجَبَ فَثَبَتَ أَنَّ النُّقْصَانَ لَا يَثْبُتُ بِمُجَرَّدِ الِاسْتِحْقَاقِ، وَإِنَّمَا يَثْبُتُ بِالِاسْتِيفَاءِ، وَلَمْ يُوجَدْ، فَلَوْ وَجَبَ النُّقْصَانُ لَكَانَ اسْتِيفَاءَ الْكَامِلِ بِالنَّاقِصِ، وَالثَّانِي إنْ سَلَّمَ أَنَّ النُّقْصَانَ يَثْبُتُ بِنَفْسِ الِاسْتِحْقَاقِ وَالْوُجُوبِ لَكِنْ حُكْمًا لَا حَقِيقَةً، وَالْأَوَّلُ نَاقِصٌ حَقِيقَةً فَلَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمَا مُمَاثَلَةٌ.
وَلَوْ قَطَعَ الْمَفْصِلَ الْأَعْلَى مِنْهَا فَاقْتُصَّ مِنْهُ ثُمَّ قَطَعَ الْمَفْصِلَ الثَّانِيَ، وَبَرِئَ اُقْتُصَّ مِنْهُ؛ لِأَنَّ أُصْبُعَ الْقَاطِعِ كَانَتْ نَاقِصَةً وَقْتَ قَطْعِ الْمَفْصِلِ الثَّانِي فَيَكُونُ اسْتِيفَاءَ النَّاقِصِ بِالنَّاقِصِ فَتَحَقَّقَتْ الْمُمَاثَلَةُ.
وَلَوْ كَانَ غَيْرُهُ قَطَعَ الْمَفْصِلَ الْأَعْلَى مِنْهَا ثُمَّ قَطَعَ هُوَ الْمَفْصِلَ الثَّانِيَ مِنْهَا فَلَا قِصَاصَ عَلَيْهِ لِانْعِدَامِ الْمُسَاوَاةِ بَيْنَ أُصْبُعِ الْقَاطِعِ وَالْمَقْطُوعِ، وَعَلَيْهِ ثُلُثُ دِيَةِ الْيَدِ.
وَلَوْ قَطَعَ الْمَفْصِلَ الْأَعْلَى فَبَرِئَ ثُمَّ قَطَعَ الْمَفْصِلَ الثَّانِيَ فَمَاتَ فَالْوَلِيُّ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ قَطَعَ الْمَفْصِلَ ثُمَّ قَتَلَ لِأَنَّ فِيهِ اسْتِيفَاءُ مِثْلِ حَقِّهِ فِي الْقَطْعِ وَالْقَتْلِ، وَإِنْ شَاءَ تَرَكَ الْمَفْصِلَ وَقَتَلَ؛ لِأَنَّ فِي إتْلَاف النَّفْسِ إتْلَافُ الطَّرَفِ فَكَانَ الْمَقْصُودُ حَاصِلًا، بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَتْ الْجِنَايَتَانِ مِنْ رَجُلَيْنِ فَمَاتَ مِنْ إحْدَاهُمَا دُونَ الْأُخْرَى أَنَّهُ إنْ كَانَ ذَلِكَ كُلُّهُ عَمْدًا فَعَلَى صَاحِبِ النَّفْسِ الْقِصَاصُ فِي النَّفْسِ، وَعَلَى صَاحِبِ الْجِنَايَةِ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ الْقِصَاصُ فِي ذَلِكَ إنْ كَانَ يُسْتَطَاعُ، وَإِنْ كَانَ لَا يُسْتَطَاعُ فَالْأَرْشُ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ خَطَأً فَعَلَى صَاحِبِ النَّفْسِ دِيَةُ النَّفْسِ، وَعَلَى صَاحِبِ الْجِرَاحَةِ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ أَرْشُ ذَلِكَ.
وَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا عَمْدًا، وَالْآخَرُ خَطَأً فَعَلَى الْعَامِدِ الْقِصَاصُ، وَعَلَى الْخَاطِئِ الْأَرْشُ، وَلَا يَدْخُلُ أَحَدُهُمَا فِي الْآخَرِ، سَوَاءٌ كَانَ بَعْدَ الْبُرْءِ أَوْ قَبْلَ الْبُرْءِ وَلِأَنَّ الْجِنَايَتَيْنِ إذَا كَانَتَا مِنْ شَخْصٍ وَاحِدٍ يُمْكِنُ جَعْلُهُمَا كَجِنَايَةٍ وَاحِدَةٍ كَأَنَّهُمَا حَصَلَا بِضَرْبَةٍ وَاحِدَةٍ، وَإِذَا كَانَتَا مِنْ شَخْصَيْنِ لَا يُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَا كَجِنَايَةٍ وَاحِدَةٍ؛ لِأَنَّ جَعْلَ فِعْلِ أَحَدِهِمَا فِعْلُ الْآخَرِ لَا يُتَصَوَّرُ فلابد أَنْ نَعْتَبِرَ فِعْلَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِانْفِرَادِهِ، سَوَاءٌ بَرِئَتْ الْجِنَايَةُ الْأُولَى أَوْ لَمْ تَبْرَأْ عَلَى مَا نُبَيِّنُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
وَلَوْ قَطَعَ مِنْ رَجُلٍ نِصْفَ الْمَفْصِلِ الْأَعْلَى مِنْ السَّبَّابَةِ ثُمَّ قَطَعَ نِصْفَ الْمَفْصِلِ الْبَاقِي إنْ كَانَ قَبْلَ الْبُرْءِ يُقْتَصُّ مِنْهُ فَيَقْطَعُ مِنْهُ الْمَفْصِلُ كُلُّهُ؛ لِأَنَّهُ إذَا كَانَ قَبْلَ الْبُرْءِ صَارَ كَأَنَّهُ قَطَعَ الْمَفْصِلَيْنِ جَمِيعًا بِضَرْبَةٍ وَاحِدَةٍ، وَلَوْ كَانَ كَذَلِكَ يُقْتَصُّ مِنْهُ وَيُقْطَعُ مِنْهُ الْمَفْصِلُ كُلُّهُ، كَذَا هَذَا.
وَإِنْ كَانَ بَعْدَ الْبُرْءِ لَا يُقْتَصُّ مِنْهُ، وَتَجِبُ حُكُومَةُ الْعَدْلِ فِي كُلِّ نِصْفٍ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ اسْتِيفَاءُ الْقِصَاصِ مِنْ نِصْفِ الْمَفْصِلِ، وَلَيْسَ لَهُ أَرْشٌ مُقَدَّرٌ فَتَجِبُ حُكُومَةُ الْعَدْلِ.
وَلَوْ قَطَعَ مِنْ رَجُلٍ نِصْفَ الْمَفْصِلِ الْأَعْلَى مِنْ السَّبَّابَةِ ثُمَّ عَادَ فَقَطَعَ الْمَفْصِلَ الثَّانِيَ فَإِنْ كَانَ قَبْلَ الْبُرْءِ فَلَا قِصَاصَ عَلَيْهِ، وَعَلَيْهِ الْقِصَاصُ فِي الْمَفْصِلِ، وَالْحُكُومَةُ فِي نِصْفِ الْمَفْصِلِ لِأَنَّهُ يَصِيرُ كَأَنَّهُ قَطَعَهُمَا دَفْعَةً وَاحِدَةً، وَلَوْ فَعَلَ ذَلِكَ لَا قِصَاصَ عَلَيْهِ لِتَعَذُّرِ الِاسْتِيفَاءِ بِصِفَةِ الْمُمَاثَلَةِ فَكَانَ عَلَيْهِ الْأَرْشُ فِي الْمَفْصِلِ وَحُكُومَةُ الْعَدْلِ فِي نِصْفِ الْمَفْصِلِ، كَذَا هَذَا.
وَإِنْ كَانَ بَعْدَ الْبُرْءِ يَجِبُ الْقِصَاصُ فِي الْمَفْصِلِ وَحُكُومَةُ الْعَدْلِ فِي نِصْفِ الْمَفْصِلِ لِأَنَّهُ إذَا بَرِئَ الْأَوَّلُ فَقَدْ اسْتَقَرَّ حُكْمُهُ، وَالِاسْتِيفَاءُ بِصِفَةِ الْمُمَاثَلَةِ مُمْكِنٌ فَثَبَتَ وِلَايَةُ الِاسْتِيفَاءِ فَلَا يُمْكِنُ اسْتِيفَاءُ الْقِصَاصِ فِي نِصْفِ الْمَفْصِلِ، وَلَيْسَ لَهُ أَرْشٌ مُقَدَّرٌ فَتَجِبُ فِيهِ حُكُومَةُ الْعَدْلِ.
وَلَوْ قَطَعَ مِنْ رَجُلٍ يَمِينَهُ مِنْ الْمَفْصِلِ فَاقْتُصَّ مِنْهُ ثُمَّ إنَّ أَحَدَهُمَا قَطَعَ مِنْ الْآخَرِ الذِّرَاعَ مِنْ الْمَرْفِقِ فَلَا قِصَاصَ فِيهِ، وَفِيهِ حُكُومَةُ الْعَدْلِ عِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ.
وَقَالَ زُفَرُ رَحِمَهُ اللَّهُ يَجِبُ الْقِصَاصُ كَذَا ذَكَرَ الْقَاضِي الْخِلَافَ فِي شَرْحِهِ مُخْتَصَرَ الطَّحَاوِيِّ- رَحِمَهُ اللَّهُ وَذَكَرَ الْكَرْخِيُّ عَلَيْهِ الرَّحْمَةُ الْخِلَافَ بَيْنَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا (وَجْهُ) قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَزُفَرَ أَنَّ اسْتِيفَاءَ الْقِصَاصِ عَلَى سَبِيلِ الْمُمَاثَلَةِ مُمْكِنٌ؛ لِأَنَّ الْمَحَلَّيْنِ اسْتَوَيَا، وَالْمِرْفَقُ مَفْصِلٌ فَكَانَ الْمِثْلُ مَقْدُورَ الِاسْتِيفَاءِ فَلَا مَعْنَى لِلْمَصِيرِ إلَى الْحُكُومَةِ كَمَا لَوْ قَطَعَ يَدَ إنْسَانٍ مِنْ مَفْصِلِ الزَّنْدِ، وَلِأَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ أَنَّ الْقِصَاصَ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ يَعْتَمِدُ الْمُسَاوَاةَ فِي الْأَرْشِ؛ لِأَنَّ مَا دُونَ النَّفْسِ يُسْلَكُ بِهِ مَسْلَكُ الْأَمْوَالِ لِمَا بَيَّنَّا، وَالْمُسَاوَاةُ فِي إتْلَافِ الْأَمْوَالِ مُعْتَبَرَةٌ، وَلِهَذَا لَا يَجْرِي الْقِصَاصُ بَيْنَ طَرَفَيْ الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى، وَالْحُرِّ وَالْعَبْدِ لِاخْتِلَافِ الْأَرْشِ، وَهَاهُنَا لَا يُعْرَفُ التَّسَاوِي فِي الْأَرْشِ لِأَنَّ أَرْشَ الذِّرَاعِ حُكُومَةُ الْعَدْلِ، وَذَلِكَ يَكُونُ بِالْحَزْرِ وَالظَّنِّ فَلَا يُعْرَفُ التَّسَاوِي بَيْنَ أَرْشَيْهِمَا؛ لِأَنَّ قَطْعَ الْكَفِّ يُوجِبُ وَهْنَ السَّاعِدِ وَضَعْفِهِ، وَلَيْسَ لَهُ أَرْشٌ مُقَدَّرٌ، وَقِيمَةُ الْوَهْنِ وَالضَّعْفِ فِيهِ لَا تُعْرَفُ إلَّا بِالْحَزْرِ وَالظَّنِّ فَلَا تُعْرَفُ الْمُمَاثَلَةُ بَيْنَ أَرْشَيْ السَّاعِدَيْنِ فَيَمْتَنِعُ وُجُوبُ الْقِصَاصِ.
وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ إذَا قُطِعَ يَدُ رَجُلٍ وَفِيهَا أُصْبُعٌ زَائِدَةٌ، وَفِي يَدِ الْقَاطِعِ أُصْبُعٌ زَائِدَةٌ مِثْلُ ذَلِكَ أَنَّهُ لَا قِصَاصَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ، وَفِيهِمَا حُكُومَةُ الْعَدْلِ.
وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ يَجِبُ الْقِصَاصُ لِوُجُودِ الْمُسَاوَاةِ بَيْنَ الْيَدَيْنِ، وَلَهُمَا أَنَّ الْأُصْبُعَ الزَّائِدَةُ فِي الْكَفِّ نَقْصٌ فِيهَا وَعَيْبٌ، وَهُوَ نَقْصٌ يَعْرِفُ بِالْحَزْرِ وَالظَّنِّ فَلَا تُعْرَفُ الْمُمَاثَلَةُ بَيْنَ الْكَفَّيْنِ.
وَلَوْ قَطَعَ أُصْبُعًا زَائِدَةً وَفِي يَدِهِ مِثْلُهَا فَلَا قِصَاصَ عَلَيْهِ بِالْإِجْمَاعِ؛ لِأَنَّ الْأُصْبُعَ الزَّائِدَةَ فِي مَعْنَى التَّزَلْزُلِ، وَلَا قِصَاصَ فِي الْمُتَزَلْزِلِ؛ وَلِأَنَّهَا نَقْصٌ وَلَا تُعْرَفُ قِيمَةُ النُّقْصَانِ إلَّا بِالْحَزْرِ وَالظَّنِّ؛ وَلِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُمَا أَرْشٌ مُقَدَّرٌ فَلَا تُعْرَفُ الْمُمَاثَلَةُ.
وَلَوْ قَطَعَ الْكَفَّ الَّتِي فِيهَا أُصْبُعٌ زَائِدَةٌ فَإِنْ كَانَتْ تِلْكَ الْأُصْبُعُ تُوهِنُ الْكَفَّ وَتَنْقُصُهَا فَلَا قِصَاصَ فِيهَا، وَإِنْ كَانَتْ لَا تَنْقُصُهَا فَفِيهَا الْقِصَاصُ.
وَلَا قِصَاصَ بَيْنَ الْأَشَلَّيْنِ، كَذَا رَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ سَوَاءٌ كَانَتْ يَدُ الْمَقْطُوعَةِ يَدُهُ أَقَلَّهُمَا شَلَلًا أَوْ أَكْثَرَ أَوْ هُمَا سَوَاءٌ، وَهُوَ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ.
وَقَالَ زُفَرُ إنْ كَانَا سَوَاءً فَفِيهِمَا الْقِصَاصُ، وَإِنْ كَانَتْ يَدُ الْمَقْطُوعَةِ يَدُهُ أَقَلَّهُمَا شَلَلًا كَانَ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ قَطَعَ يَدَ الْقَاطِعِ، وَإِنْ شَاءَ ضَمَّنَهُ أَرْشَ يَدِهِ شَلَّاءَ.
وَإِنْ كَانَتْ يَدُ الْمَقْطُوعَةِ يَدُهُ أَكْثَرَهُمَا شَلَلًا فَلَا قِصَاصَ وَلَهُ أَرْشُ يَدِهِ، وَالصَّحِيحُ قَوْلُنَا لِأَنَّ بَعْضَ الشَّلَلِ فِي يَدَيْهِمَا يُوجِبُ اخْتِلَافَ أَرْشَيْهِمَا، وَذَلِكَ يُعْرَفُ بِالْحَزْرِ وَالظَّنِّ فَلَا تُعْرَف الْمُمَاثَلَةُ وَكَذَلِكَ مَقْطُوعُ الْإِبْهَامِ كُلِّهَا إذَا قَطَعَ يَدًا مِثْلَ يَدِهِ لَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمَا قِصَاصٌ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ؛ لِأَنَّ قَطْعَ الْإِبْهَامِ يُوهِنُ الْكَفَّ وَيُسْقِطُ تَقْدِيرَ الْأَرْشِ فَلَا يُعْرَفُ إلَّا بِالْحَزْرِ وَالظَّنِّ فَلَا تُعْرَفُ الْمُمَاثَلَةُ.
وَلَوْ قَطَعَ يَدُ رَجُلٍ ثُمَّ قَتَلَهُ فَإِنْ كَانَ بَعْدَ الْبُرْءِ لَا تَدْخُلُ الْيَدُ فِي النَّفْسِ بِلَا خِلَافٍ، وَالْوَلِيُّ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ قَطَعَ يَدَهُ ثُمَّ قَتَلَهُ، وَإِنْ شَاءَ اكْتَفَى بِالْقَتْلِ، وَإِنْ شَاءَ عَفَا عَنْ النَّفْسِ وَقَطَعَ يَدَهُ، وَإِنْ كَانَ قَبْلَ الْبُرْءِ فَكَذَلِكَ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَفِي قَوْلِهِمَا تَدْخُلُ الْيَدُ فِي النَّفْسِ وَلَهُ أَنْ يَقْتُلَهُ وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَقْطَعَ يَدَهُ (وَجْهُ) قَوْلِهِمَا أَنَّ الْجِنَايَةَ عَلَى مَا دُونَ النَّفْسِ إذَا لَمْ يَتَّصِلْ بِهَا الْبُرْءُ لَا حُكْمَ لَهَا مَعَ الْجِنَايَةِ عَلَى النَّفْسِ فِي الشَّرِيعَةِ بَلْ يَدْخُلُ مَا دُونَ النَّفْسِ فِي النَّفْسِ كَمَا إذَا قَطَعَ يَدَهُ خَطَأً ثُمَّ قَتَلَهُ قَبْلَ الْبُرْءِ حَتَّى لَا يَجِبَ عَلَيْهِ إلَّا دِيَةُ النَّفْسِ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ حَقَّ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ فِي الْمِثْلِ وَذَلِكَ فِي الْقَطْعِ وَالْقَتْلِ، وَالِاسْتِيفَاءُ بِصِفَةِ الْمُمَاثَلَةِ مُمْكِنٌ فَإِذَا قَطَعَ الْمَوْلَى يَدَهُ ثُمَّ قَتَلَهُ كَانَ مُسْتَوْفِيًا لِلْمِثْلِ فَيَكُونُ الْجَزَاءُ مِثْلَ الْجِنَايَةِ جَزَاءً وِفَاقًا بِخِلَافِ الْخَطَأِ؛ لِأَنَّ الْمِثْلَ هُنَاكَ غَيْرُ مُسْتَحَقٍّ بَلْ الْمُسْتَحَقُّ غَيْرُ الْمِثْلِ؛ لِأَنَّ الْمَالَ لَيْسَ بِمِثْلِ النَّفْسِ.
وَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَجِبَ أَصْلًا إلَّا أَنَّ وُجُوبَهُ ثَبَتَ مَعْدُولًا بِهِ عَنْ الْأَصْلِ عِنْدَ اسْتِقْرَارِ سَبَبِ الْوُجُوبِ فَبَقِيَتْ الزِّيَادَةُ حَالَ عَدَمِ اسْتِقْرَارِ السَّبَبِ لِعَدَمِ الْبُرْءِ مَرْدُودَةً إلَى حُكْمِ الْأَصْلِ، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ هَذَا إذَا كَانَا جَمِيعًا عَمْدًا فَأَمَّا إذَا كَانَا جَمِيعًا خَطَأً فَإِنْ كَانَ بَعْدَ الْبُرْءِ لَا يَدْخُلُ مَا دُونَ النَّفْسِ فِي النَّفْسِ، وَتَجِبُ دِيَةٌ كَامِلَةٌ وَنِصْفُ دِيَةٍ تَتَحَمَّلُهُ الْعَاقِلَةُ، وَتُؤَدَّى فِي ثَلَاثِ سِنِينَ: فِي السَّنَةِ الْأُولَى ثُلُثَا الدِّيَةِ ثُلُثٌ مِنْ الدِّيَةِ الْكَامِلَةِ، وَثُلُثٌ مِنْ نِصْفِ الدِّيَةِ.
وَفِي السَّنَةِ الثَّانِيَةِ نِصْفُ الدِّيَةِ ثُلُثٌ مِنْ الدِّيَةِ الْكَامِلَةِ، وَسُدُسٌ مِنْ النِّصْفِ.
وَفِي السَّنَةِ الثَّالِثَةِ ثُلُثُ الدِّيَةِ؛ لِأَنَّ الدِّيَةَ الْكَامِلَةَ تُؤَدَّى فِي ثَلَاثِ سِنِينَ، وَنِصْفُ الدِّيَةِ يُؤَدَّى فِي سَنَتَيْنِ مِنْ الثَّلَاثِ، وَهَذَا يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ قَدْرُ الْمُؤَدَّى مِنْهُمَا، وَإِنَّمَا لَمْ يَدْخُلْ مَا دُونَ النَّفْسِ فِي النَّفْسِ؛ لِأَنَّ الْأَوَّلَ لَمَّا بَرِئَ فَقَدْ اسْتَقَرَّ حُكْمُهُ فَكَانَ الْبَاقِي جِنَايَةَ مُبْتَدَأٍ فَيُبْتَدَأُ بِحُكْمِهَا، وَإِنْ كَانَ قَبْلَ الْبُرْءِ يَدْخُلُ مَا دُونَ النَّفْسِ فِي النَّفْسِ، وَيَجِبُ دِيَةٌ وَاحِدَةٌ؛ لِأَنَّ حُكْمَ الْأَوَّلِ لَمْ يَسْتَقِرَّ.
وَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا عَمْدًا وَالْآخَرُ خَطَأً لَا يَدْخُلُ مَا دُونَ النَّفْسِ فِي النَّفْسِ بَلْ يُعْتَبَرُ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا بِحُكْمِهِ، سَوَاءٌ كَانَ بَعْدَ الْبُرْءِ أَوْ قَبْلَهُ لِأَنَّ الْعَمْدَ مَعَ الْخَطَأِ جِنَايَتَانِ مُخْتَلِفَانِ فَلَا يُحْتَمَلَانِ التَّدَاخُلَ فَيُعْطَى لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حُكْمُ نَفْسِهَا فَيَجِبُ فِي الْعَمْدِ الْقِصَاصُ، وَفِي الْخَطَأِ الْأَرْشُ هَذَا كُلُّهُ إذَا كَانَ الْجَانِي وَاحِدًا فَقَطَعَ ثُمَّ قَتَلَ فَأَمَّا إذَا كَانَا اثْنَيْنِ فَقَطَعَ أَحَدُهُمَا يَدَهُ ثُمَّ قَتَلَهُ الْآخَرُ فَلَا يَدْخُلُ مَا دُونَ النَّفْسِ فِي النَّفْسِ كَيْفَمَا كَانَ بَعْدَ الْبُرْءِ أَوْ قَبْلَهُ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ اعْتِبَارُ كُلِّ جِنَايَةٍ بِحِيَالِهَا لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا جِنَايَةٌ عَلَى حِدَةٍ فَكَانَ الْأَصْلُ عَدَمَ التَّدَاخُلِ وَإِفْرَادُ كُلِّ جِنَايَةٍ بِحُكْمِهَا إلَّا أَنَّ عِنْدَ اتِّحَادِ الْجَانِي، وَعَدَمِ الْبُرْءِ قَدْ يُجْعَلَانِ كَجِنَايَةٍ وَاحِدَةٍ كَأَنَّهُمَا حَصَلَا بِضَرْبَةٍ وَاحِدَةٍ تَقْدِيرًا، وَلَا يُمْكِنُ هَذَا التَّقْدِيرُ عِنْدَ اخْتِلَافِ الْجَانِي لِاسْتِحَالَةِ أَنْ يَكُونَ فِعْلُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِعْلًا لِصَاحِبِهِ حَقِيقَةً فَتَعَذَّرَ التَّقْدِيرُ فَبَقِيَ فِعْلُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا جِنَايَةً مُفْرَدَةً حَقِيقَةً وَتَقْدِيرًا فَيُفْرَدُ حُكْمُهَا، فَإِنْ كَانَتَا جَمِيعًا عَمْدًا يَجِبُ الْقِصَاصُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنْ الْقَطْعِ وَالْقَتْلِ، وَإِنْ كَانَتَا جَمِيعًا خَطَأً يَجِبُ الدِّيَةُ عَلَيْهِمَا يَتَحَمَّلُ عَنْهُمَا عَاقِلَتُهُمَا فِي الْقَطْعِ وَالْقَتْلِ، وَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا عَمْدًا، وَالْآخَرُ خَطَأً يَجِبُ الْقِصَاصُ فِي الْعَمْدِ، وَالْأَرْشُ فِي الْخَطَأِ.
وَلَوْ قَطَعَ أُصْبُعَ يَدِ رَجُلٍ عَمْدًا، وَقَطَعَ آخَرُ يَدَهُ مِنْ الزَّنْدِ فَمَاتَ فَالْقِصَاصُ عَلَى الثَّانِي فِي قَوْلِ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ- رَحِمَهُمُ اللَّهُ.
وَقَالَ زُفَرُ- رَحِمَهُ اللَّهُ: عَلَيْهِمَا جَمِيعًا، وَبِهِ أَخَذَ الشَّافِعِيُّ (وَجْهُ) قَوْلِ زُفَرَ أَنَّ السِّرَايَةَ بِاعْتِبَارِ الْأَلَمِ، وَالْقَطْعُ الْأَوَّلُ اتَّصَلَ أَلَمُهُ بِالنَّفْسِ، وَتَكَامَلَ بِالثَّانِي فَكَانَتْ السِّرَايَةُ مُضَافَةً إلَى الْفِعْلَيْنِ فَيَجِبُ الْقِصَاصُ عَلَيْهِمَا.
(وَلَنَا) أَنَّ السِّرَايَةَ بِاعْتِبَارِ الْآلَامِ الْمُتَرَادِفَةِ الَّتِي لَا تَتَحَمَّلُهَا النَّفْسُ إلَى أَنْ يَمُوتَ، وَقَطْعُ الْيَدِ يَمْنَعُ وُصُولَ الْأَلَمِ مِنْ الْأُصْبُعِ إلَى النَّفْسِ فَكَانَ قَطْعًا لِلسِّرَايَةِ فَبَقِيَتْ السِّرَايَةُ مُضَافَةً إلَى قَطْعِ الْيَدِ، وَصَارَ كَمَا لَوْ قَطَعَ الْأُصْبُعَ فَبَرِئَتْ ثُمَّ قَطَعَ آخَرُ يَدَهُ فَمَاتَ، وَهُنَاكَ الْقِصَاصُ عَلَى الثَّانِي، كَذَا هَذَا بَلْ أَوْلَى؛ لِأَنَّ الْقَطْعَ فِي الْمَنْعِ مِنْ الْأَثَرِ، وَهُوَ وُصُولُ الْأَلَمِ إلَى النَّفْسِ فَوْقَ الْبُرْءِ إذْ الْبُرْءُ يَحْتَمِلُ الِانْتِقَاصَ، وَالْقَطْعُ لَا يَحْتَمِلُ ثُمَّ زَوَالُ الْأَثَرِ بِالْبُرْءِ يَقْطَعُ السِّرَايَةَ فَزَوَالُهُ بِالْقَطْعِ كَانَ أَوْلَى وَأَحْرَى وَلَوْ جَنَى عَلَى مَا دُونَ النَّفْسِ فَسَرَى فَالسِّرَايَةُ لَا تَخْلُو إمَّا إنْ كَانَتْ إلَى النَّفْسِ، وَإِمَّا إنْ كَانَتْ إلَى عُضْوٍ آخَرَ فَإِنْ كَانَتْ إلَى النَّفْسِ فَالْجَانِي لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ كَانَ مُتَعَدِّيًا فِي الْجِنَايَةِ وَإِمَّا إنْ لَمْ يَكُنْ فَإِنْ كَانَ مُتَعَدِّيًا فِي الْجِنَايَةِ وَالْجِنَايَةُ بِحَدِيدٍ أَوْ بِخَشَبَةٍ تَعْمَلُ عَمَلَ السِّلَاحِ فَمَاتَ مِنْ ذَلِكَ فَعَلَيْهِ الْقِصَاصُ سَوَاءٌ كَانَتْ الْجِنَايَةُ مِمَّا تُوجِبُ الْقِصَاصَ لَوْ بَرِئَتْ أَوْ لَا تُوجِبُ، كَمَا إذَا قَطَعَ يَدَ إنْسَانٍ مِنْ الزَّنْدِ أَوْ مِنْ السَّاعِدِ أَوْ شَجَّهُ مُوضِحَةً أَوْ آمَّةً أَوْ جَائِفَةً أَوْ أَبَانَ طَرَفًا مِنْ أَطْرَافِهِ أَوْ جَرَحَهُ جِرَاحَةً مُطْلَقَةً فَمَاتَ مِنْ ذَلِكَ فَعَلَيْهِ الْقِصَاصُ لِأَنَّهُ لَمَّا سَرَى بَطَلَ حُكْمُ مَا دُونَ النَّفْسِ، وَتَبَيَّنَ أَنَّهُ وَقَعَ قَتْلًا مِنْ حِينِ وُجُودِهِ، وَلِلْوَلِيِّ أَنْ يَقْتُلَهُ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَفْعَلَ بِهِ مِثْلَ مَا فَعَلَ حَتَّى لَوْ كَانَ قَطَعَ يَدَهُ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَقْطَعَ يَدَهُ عِنْدَنَا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ- رَحِمَهُ اللَّهُ- أَنَّهُ يَفْعَلُ بِهِ مِثْلَ مَا فَعَلَ فَإِنْ مَاتَ مِنْ ذَلِكَ وَإِلَّا قَتَلَهُ.
وَكَذَلِكَ إذَا قَطَعَ رَجُلٌ يَدَ رَجُلٍ وَرَجُلَيْهِ فَمَاتَ مِنْ ذَلِكَ تُحَزُّ رَقَبَتُهُ عِنْدَنَا، وَعِنْدَهُ يُفْعَلُ بِهِ مِثْلُ مَا فَعَلَ، وَقَدْ ذَكَرْنَا الْمَسْأَلَةَ فِيمَا تَقَدَّمَ.
وَلَوْ قَطَعَ يَدَهُ فَعَفَا الْمَقْطُوعُ عَنْ الْقَطْعِ ثُمَّ سَرَى إلَى النَّفْسِ وَمَاتَ فَإِنْ عَفَا عَنْ الْجِنَايَةِ أَوْ عَنْ الْقَطْعِ، وَمَا يَحْدُثُ مِنْهُ أَوْ الْجِرَاحَةُ، وَمَا يَحْدُثُ مِنْهَا فَهُوَ عَنْ النَّفْسِ بِالْإِجْمَاعِ، وَإِنْ عَفَا عَنْ الْقَطْعِ أَوْ الْجِرَاحَةِ وَلَمْ يَقُلْ وَمَا يَحْدُثُ مِنْهَا لَا يَكُونُ عَفْوًا عَنْ النَّفْسِ، وَعَلَى الْقَاطِعِ دِيَةُ النَّفْسِ فِي مَالِهِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَفِي قَوْلِهِمَا يَكُونُ عَفْوًا عَنْ النَّفْسِ وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ، وَالْمَسْأَلَةُ بِأَخَوَاتِهَا قَدْ مَرَّتْ فِي مَسَائِلِ الْعَفْوِ عَنْ الْقِصَاصِ فِي النَّفْسِ.
وَلَوْ كَانَ لَهُ عَلَى رَجُلٍ قِصَاصٌ فِي النَّفْسِ فَقَطَعَ يَدَهُ ثُمَّ عَفَا عَنْ النَّفْسِ، وَبَرِئَتْ الْيَدُ ضَمِنَ دِيَةَ الْيَدِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ، وَمُحَمَّدٌ لَا ضَمَان عَلَيْهِ (وَجْهُ) قَوْلِهِمَا إنَّ نَفْسَ الْقَاتِلِ بِالْقَتْلِ صَارَتْ حَقًّا لِوَلِيِّ الْقَتِيلِ، وَالنَّفْسُ اسْمٌ لِجُمْلَةِ الْأَجْزَاءِ فَإِذَا قَطَعَ يَدَهُ فَقَدْ اسْتَوْفَى حَقَّ نَفْسِهِ فَلَا يَضْمَنُ، وَلِهَذَا لَوْ قَطَعَ يَدَهُ ثُمَّ قَتَلَهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ ضَمَانُ الْيَدِ وَلَوْ لَمْ تَكُنْ الْيَدُ حَقَّهُ لَوَجَبَ الضَّمَانُ عَلَيْهِ دَلَّ أَنَّهُ بِالْقَطْعِ اسْتَوْفَى حَقَّ نَفْسِهِ فَبَعْدَ ذَلِكَ إنْ عَفَا عَنْ النَّفْسِ فَالْعَفْوُ يَنْصَرِفُ إلَى الْقَائِمِ لَا إلَى الْمُسْتَوْفِي كَمَنْ اسْتَوْفَى بَعْضَ دِيَتِهِ ثُمَّ أَبْرَأَ الْغَرِيمَ إنَّ الْإِبْرَاءَ يَنْصَرِفُ إلَى مَا بَقِيَ لَا إلَى الْمُسْتَوْفِي كَذَا هَذَا وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إنَّ حَقَّ مَنْ لَهُ الْقِصَاصُ فِي الْفِعْلِ وَهُوَ الْقَتْلُ لَا فِي الْمَحَلِّ وَهُوَ النَّفْسُ، أَوْ يُقَالُ حَقُّهُ فِي النَّفْسِ لَكِنْ فِي الْقَتْلِ لَا فِي حَقِّ الْقَطْعِ؛ لِأَنَّ حَقَّهُ فِي الْمِثْلِ وَالْمَوْجُودُ مِنْهُ الْقَتْلُ لَا الْقَطْعُ، وَمِثْلُ الْقَتْلِ هُوَ الْقَتْلُ فَكَانَ أَجْنَبِيًّا عَنْ الْيَدِ فَإِذَا قَطَعَ الْيَدَ فَقَدْ اسْتَوْفَى مَا لَيْسَ بِحَقٍّ لَهُ وَهُوَ مُتَقَوِّمٌ فَيَضْمَنُ.
وَكَانَ الْقِيَاسُ أَنْ يَجِبَ الْقِصَاصُ إلَّا أَنَّهُ سَقَطَ لِلشُّبْهَةِ فَتَجِبُ الدِّيَةُ إلَّا أَنَّهُ إذَا قَطَعَ الْيَدَ ثُمَّ قَتَلَهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ ضَمَانُ الْيَدِ، وَإِنْ كَانَ مُتَعَدِّيًا فِي الْقَطْعِ مُسِيئًا فِيهِ لِأَنَّهُ لَا قِيمَةَ لَهَا مَعَ إتْلَافِ النَّفْسِ بِالْقِصَاصِ فَلَا يَضْمَنُ كَمَا لَوْ قَطَعَ يَدَ مُرْتَدٍّ أَنَّهُ لَا يَضْمَنُ وَإِنْ كَانَ مُتَعَدِّيًا فِي الْقَطْعِ لِمَا قُلْنَا، كَذَا هَذَا وَلِأَنَّهُ كَانَ مُخَيَّرًا بَيْنَ الْقِصَاصِ وَبَيْنَ الْعَفْوِ فَإِذَا عَفَا اسْتَنَدَ الْعَفْوُ إلَى الْأَصْلِ كَأَنَّهُ عَفَا ثُمَّ قَطَعَ فَكَانَ الْقَطْعُ اسْتِيفَاءَ غَيْرِ حَقِّهِ فَيَضْمَنُ هَذَا إذَا كَانَ مُتَعَدِّيًا فِي الْجِنَايَةِ عَلَى مَا دُونَ النَّفْسِ فَأَمَّا إذَا لَمْ يَكُنْ مُتَعَدِّيًا فِيهَا فَلَا يَجِبُ الْقِصَاصُ لِلشُّبْهَةِ، وَتَجِبُ الدِّيَةُ فِي بَعْضِهَا، وَلَا تَجِبُ فِي الْبَعْضِ.
وَبَيَانُ ذَلِكَ فِي مَسَائِلَ: إذَا قَطَعَ يَدَ رَجُلٍ عَمْدًا حَتَّى وَجَبَ عَلَيْهِ الْقِصَاصُ فَقَطَعَ الرَّجُلُ يَدَهُ فَمَاتَ مِنْ ذَلِكَ ضَمِنَ الدِّيَةَ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ- رَحِمَهُ اللَّهُ، وَفِي قَوْلِهِمَا لَا شَيْءَ عَلَيْهِ.
وَلَوْ قَطَعَ الْإِمَامُ يَدَ السَّارِقِ فَمَاتَ مِنْهُ لَا ضَمَانَ عَلَى الْإِمَامِ وَلَا عَلَى بَيْتِ الْمَالِ.
وَكَذَلِكَ الْفَصَّادُ وَالْبَزَّاغُ وَالْحَجَّامُ إذَا سَرَتْ جِرَاحَاتُهُمْ لَا ضَمَانَ عَلَيْهِمْ بِالْإِجْمَاعِ (وَجْهُ) قَوْلِهِمَا إنَّ الْمَوْتَ حَصَلَ بِفِعْلٍ مَأْذُونٍ فِيهِ وَهُوَ الْقَطْعُ فَلَا يَكُونُ مَضْمُونًا كَالْإِمَامِ إذَا قَطَعَ السَّارِقَ فَمَاتَ مِنْهُ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ اسْتَوْفَى غَيْرَ حَقِّهِ؛ لِأَنَّ حَقَّهُ فِي الْقَطْعِ وَهُوَ أَتَى بِالْقَتْلِ؛ لِأَنَّ الْقَتْلَ اسْمٌ لِفِعْلٍ يُؤَثِّرُ فِي فَوَاتِ الْحَيَاةِ عَادَةً، وَقَدْ وُجِدَ فَيَضْمَنُ، كَمَا إذَا قَطَعَ يَدَ إنْسَانٍ ظُلْمًا فَسَرَى إلَى النَّفْسِ.
وَكَانَ الْقِيَاسُ أَنْ يَجِبَ الْقِصَاصُ إلَّا أَنَّهُ سَقَطَ لِلشُّبْهَةِ فَتَجِبُ الدِّيَةَ، وَهَكَذَا نَقُولُ فِي الْإِمَامِ أَنَّ فِعْلَهُ وَقَعَ قَتْلًا إلَّا أَنَّهُ لَا سَبِيلَ إلَى إيجَابِ الضَّمَانِ لِلضَّرُورَةِ؛ لِأَنَّ إقَامَةَ الْحَدِّ مُسْتَحَقَّةٌ عَلَيْهِ، وَالتَّحَرُّزَ عَنْ السِّرَايَةِ لَيْسَ فِي وُسْعِهِ فَلَوْ أَوْجَبْنَا الضَّمَانَ لَامْتَنَعَ الْأَئِمَّةُ عَنْ الْإِقَامَةِ خَوْفًا عَنْ لُزُومِ الضَّمَانِ، وَفِيهِ تَعْطِيلُ الْحُدُودِ، وَالْقَطْعُ لَيْسَ بِمُسْتَحَقٍّ عَلَى مَنْ لَهُ الْقِصَاصُ بَلْ هُوَ مُخَيَّرٌ فِيهِ، وَالْأَوْلَى هُوَ الْعَفْوُ وَلَا ضَرُورَةَ إلَى إسْقَاطِ الضَّمَانِ بَعْدَ وُجُودِ سَبَبِهِ.
وَلَوْ ضَرَبَ امْرَأَتَهُ لِلنُّشُوزِ فَمَاتَتْ مِنْهُ يَضْمَنُ؛ لِأَنَّ الْمَأْذُونَ فِيهِ هُوَ التَّأْدِيبُ لَا الْقَتْلُ، وَلَمَّا اتَّصَلَ بِهِ الْمَوْتُ تَبَيَّنَ أَنَّهُ وَقَعَ قَتْلًا.
وَلَوْ ضَرَبَ الْأَبُ أَوْ الْوَصِيُّ الصَّبِيَّ لِلتَّأْدِيبِ فَمَاتَ ضَمِنَ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَفِي قَوْلِهِمَا لَا يَضْمَنُ.
وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ الْأَبَ وَالْوَصِيَّ مَأْذُونَانِ فِي تَأْدِيبِ الصَّبِيِّ وَتَهْذِيبِهِ، وَالْمُتَوَلِّدُ مِنْ الْفِعْلِ الْمَأْذُونِ فِيهِ لَا يَكُونُ مَضْمُونًا كَمَا لَوْ عَزَّرَ الْإِمَامُ إنْسَانًا فَمَاتَ (وَجْهُ) قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ التَّأْدِيبَ اسْمٌ لِفِعْلٍ يَبْقَى الْمُؤَدَّبُ حَيًّا بَعْدَهُ فَإِذَا سَرَى تَبَيَّنَ أَنَّهُ قَتْلٌ وَلَيْسَ بِتَأْدِيبٍ، وَهُمَا غَيْرُ مَأْذُونَيْنِ فِي الْقَتْلِ.
وَلَوْ ضَرَبَهُ الْمُعَلِّمُ أَوْ الْأُسْتَاذُ فَمَاتَ؛ إنْ كَانَ الضَّرْبُ بِغَيْرِ أَمْرِ الْأَبِ أَوْ الْوَصِيِّ يَضْمَنُ لِأَنَّهُ مُتَعَدٍّ فِي الضَّرْبِ، وَالْمُتَوَلِّدُ مِنْهُ يَكُونُ مَضْمُونًا عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ بِإِذْنِهِ لَا يَضْمَنُ لِلضَّرُورَةِ لِأَنَّ الْمُعَلِّمَ إذَا عَلِمَ أَنَّهُ يَلْزَمُهُ الضَّمَانُ بِالسِّرَايَةِ وَلَيْسَ فِي وُسْعِهِ التَّحَرُّزُ عَنْهَا يَمْتَنِعُ عَنْ التَّعْلِيمِ فَكَانَ فِي التَّضْمِينِ سَدُّ بَابِ التَّعْلِيمِ وَبِالنَّاسِ حَاجَةٌ إلَى ذَلِكَ فَسَقَطَ اعْتِبَارُ السِّرَايَةِ فِي حَقِّهِ لِهَذِهِ الضَّرُورَةِ، وَهَذِهِ الضَّرُورَةُ لَمْ تُوجَدْ فِي الْأَبِ؛ لِأَنَّ لُزُومَ الضَّمَانِ لَا يَمْنَعُهُ عَنْ التَّأْدِيبِ لِفَرْطِ شَفَقَتِهِ عَلَى وَلَدِهِ فَلَا يَسْقُطُ اعْتِبَارُ السِّرَايَةِ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ.
وَلَوْ قَطَعَ يَدَ مُرْتَدٍّ فَأَسْلَمَ ثُمَّ مَاتَ فَلَا شَيْءَ عَلَى الْقَاطِعِ، وَهَذَا يُؤَيِّدُ مَذْهَبَ أَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي اعْتِبَارِ وَقْتِ الْفِعْلِ، وَالْأَصْلُ فِي هَذَا أَنَّ الْجِنَايَةَ إذَا وَرَدَتْ عَلَى مَا لَيْسَ بِمَضْمُونٍ فَالسِّرَايَةُ لَا تَكُونُ مَضْمُونَةً؛ لِأَنَّ الضَّمَانَ يَجِبُ بِالْفِعْلِ السَّابِقِ، وَالْفِعْلُ صَادَفَ مَحَلًّا غَيْرَ مَضْمُونٍ.
وَكَذَلِكَ لَوْ قَطَعَ يَدَ حَرْبِيٍّ ثُمَّ أَسْلَمَ ثُمَّ مَاتَ مِنْ الْقَطْعِ أَنَّهُ لَا شَيْءَ عَلَى الْقَاطِعِ؛ لِأَنَّ الْجِنَايَةَ وَرَدَتْ عَلَى مَحَلٍّ غَيْرِ مَضْمُونٍ فَلَا تَكُونُ مَضْمُونَةً.
وَهَكَذَا لَوْ قَطَعَ يَدَ عَبْدِهِ ثُمَّ أَعْتَقَهُ ثُمَّ مَاتَ لَمْ يَضْمَنْ السِّرَايَةَ؛ لِأَنَّ يَدَ الْعَبْدِ غَيْرُ مَضْمُونَةٍ فِي حَقِّهِ.
وَلَوْ قَطَعَ يَدَهُ، وَهُوَ مُسْلِمٌ ثُمَّ ارْتَدَّ، وَالْعِيَاذُ بِاَللَّهِ، ثُمَّ مَاتَ فَعَلَى الْقَاطِعِ دِيَةُ الْيَدِ لَا غَيْرُ لِأَنَّهُ أَبْطَلَ عِصْمَةَ نَفْسِهِ بِالرِّدَّةِ فَصَارَتْ الرِّدَّةُ بِمَنْزِلَةِ الْإِبْرَاءِ عَنْ السِّرَايَةِ، وَلَوْ رَجَعَ إلَى الْإِسْلَامِ ثُمَّ مَاتَ فَعَلَى الْقَاطِعِ دِيَةُ النَّفْسِ فِي قَوْلِهِمَا، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ دِيَةُ الْيَدِ لَا غَيْرُ.
وَجْهُ قَوْلِهِ عَلَى نَحْوِ مَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ لَمَّا ارْتَدَّ فَكَأَنَّهُ أَبْرَأَ الْقَاطِعَ عَنْ السِّرَايَةِ.
وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ الْجِنَايَةَ يَتَعَلَّقُ حُكْمُهَا بِالِابْتِدَاءِ أَوْ بِالِانْتِهَاءِ، وَمَا بَيْنَهُمَا لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ حُكْمٌ، وَالْمَحَلُّ هاهنا مَضْمُونٌ فِي الْحَالَيْنِ فَكَانَتْ الْجِنَايَةُ مَضْمُونَةً فِيهِمَا فَلَا تُعْتَبَرُ الرِّدَّةُ الْعَارِضَةُ فِيمَا بَيْنَهُمَا.
(وَأَمَّا) قَوْلُ مُحَمَّدٍ الرِّدَّةُ بِمَنْزِلَةِ الْبَرَاءَةِ فَنَعَمْ لَكِنْ بِشَرْطِ الْمَوْتِ عَلَيْهَا؛ لِأَنَّ حُكْمَ الرِّدَّةِ مَوْقُوفٌ عَلَى الْإِسْلَامِ وَالْمَوْتِ، وَقَدْ كَانَتْ الْجِنَايَةُ مَضْمُونَةً فَوَقَفَ حُكْمُ السِّرَايَةِ أَيْضًا وَكَذَلِكَ لَوْ لَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ، وَلَمْ يَقْضِ الْقَاضِي بِلُحُوقِهِ ثُمَّ رَجَعَ إلَيْنَا مُسْلِمًا ثُمَّ مَاتَ مِنْ الْقَطْعِ فَهُوَ عَلَى هَذَا الْخِلَافِ، وَإِنْ كَانَ الْقَاضِي قَضَى بِلُحُوقِهِ ثُمَّ عَادَ مُسْلِمًا ثُمَّ مَاتَ مِنْ الْقَطْعِ فَعَلَى الْقَاطِعِ دِيَةُ يَدِهِ لَا غَيْرُ بِالْإِجْمَاعِ؛ لِأَنَّ لُحُوقَهُ بِدَارِ الْحَرْبِ يَقْطَعُ حُقُوقَهُ بِدَلِيلِ أَنَّهُ يُقَسَّمُ مَالُهُ بَيْنَ وَرَثَتِهِ بَعْدَ اللُّحُوقِ، وَلَا يُقَسَّمُ قَبْلَهُ فَصَارَ كَالْإِبْرَاءِ عَنْ الْجِنَايَةِ.
وَلَوْ قَطَعَ يَدَ عَبْدٍ خَطَأً فَأَعْتَقَهُ مَوْلَاهُ ثُمَّ مَاتَ مِنْهَا فَلَا شَيْءَ عَلَى الْقَاطِعِ غَيْرُ أَرْشِ الْيَدِ وَعِتْقُهُ كَبُرْءِ الْيَدِ لِأَنَّ السِّرَايَةَ لَوْ كَانَتْ مَضْمُونَةً عَلَى الْجَانِي فَإِمَّا أَنْ تَكُونَ مَضْمُونَةً عَلَيْهِ لِلْمَوْلَى (وَإِمَّا) أَنْ تَكُونَ مَضْمُونَةً عَلَيْهِ لِلْعَبْدِ، لَا سَبِيلَ إلَى الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّ الْمَوْلَى لَيْسَ بِمَالِكٍ لَهُ بَعْدَ الْعِتْقِ، وَلَا وَجْهَ لِلثَّانِي؛ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ السِّرَايَةَ تَكُونُ تَابِعَةً لِلْجِنَايَةِ فَالْجِنَايَةُ لَمَّا لَمْ تَكُنْ مَضْمُونَةً لِلْعَبْدِ لَا تَكُونُ سِرَايَتَهَا مَضْمُونَةً لَهُ، وَلِهَذَا قُلْنَا إذَا بَاعَهُ الْمَوْلَى بَعْدَ الْقَطْعِ سَقَطَ حُكْمُ السِّرَايَةِ وَلَيْسَ قَطْعُ الْيَدِ فِي هَذَا مِثْلَ الرَّمْيِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ- رَحِمَهُ اللَّهُ- حَيْثُ أَوْجَبَ عَلَيْهِ بِالرَّمْيِ الْقِيمَةَ وَإِنْ أَعْتَقَهُ الْمَوْلَى وَلَمْ يُوجِبْ فِي الْقَطْعِ إلَّا أَرْشَ الْيَدِ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الرَّمْيَ سَبَبُ الْإِصَابَةِ لَا مَحَالَةَ فَصَارَ جَانِيًا بِهِ وَقْتَ الرَّمْيِ (فَأَمَّا) الْقَطْعُ فَلَيْسَ بِمُوجِبٍ لِلسِّرَايَةِ لَا مَحَالَةَ، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
وَإِنْ كَانَ قَطَعَ يَدَ الْعَبْدِ عَمْدًا فَأَعْتَقَهُ مَوْلَاهُ ثُمَّ مَاتَ الْعَبْدُ يُنْظَرُ إنْ كَانَ الْمَوْلَى هُوَ وَارِثُهُ لَا وَارِثَ لَهُ غَيْرُهُ فَلَهُ أَنْ يَقْتُلَ الْجَانِيَ فِي قَوْلِهِمَا خِلَافًا لِمُحَمَّدٍ، وَقَدْ مَرَّتْ الْمَسْأَلَةُ، وَإِنْ كَانَ لَهُ وَارِثٌ غَيْرَهُ يَحْجُبُهُ عَنْ مِيرَاثِهِ وَيَدْخُلُ مَعَهُ فِي مِيرَاثِهِ فَلَا قِصَاصَ لِاشْتِبَاهِ الْوَلِيِّ عَلَى مَا مَرَّ، وَلَوْ لَمْ يُعْتِقْهُ بَعْدَ الْقَطْعِ وَلَكِنَّهُ دَبَّرَهُ أَوْ كَانَتْ أَمَةً فَاسْتَوْلَدَهَا فَإِنَّهُ لَا تَنْقَطِعُ السِّرَايَةَ وَيَجِبُ نِصْفُ الْقِيمَةِ، وَيَجِبُ مَا نَقَصَ بَعْدَ الْجِنَايَةِ قَبْلَ الْمَوْتِ هَذَا إذَا كَانَ خَطَأً، وَإِنْ كَانَ عَمْدًا فَلِلْمَوْلَى أَنْ يَقْتَصَّ بِالْإِجْمَاعِ وَلَوْ كَاتَبَهُ وَالْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا فَبِالْكِتَابَةِ بَرِئَ عَنْ السِّرَايَةِ فَيَجِبُ نِصْفُ الْقِيمَةِ لِلْمَوْلَى فَإِذَا مَاتَ وَكَانَ خَطَأً لَا يَجِبُ عَلَيْهِ شَيْءٌ آخَرُ، وَإِنْ كَانَ عَمْدًا فَإِنْ كَانَ عَاجِزًا فَلِلْمَوْلَى أَنْ يَقْتَصَّ لِأَنَّهُ مَاتَ عَبْدًا، وَإِنْ مَاتَ عَنْ وَفَاءٍ فَقَدْ مَاتَ حُرًّا فَيُنْظَرُ إنْ كَانَ لَهُ وَارِثٌ يَحْجُبُ الْمَوْلَى أَوْ يُشَارِكُهُ فَلَا قِصَاصَ عَلَيْهِ، وَيَجِبُ عَلَيْهِ أَرْشُ الْيَدِ لَا غَيْرُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَارِثٌ غَيْرَ الْمَوْلَى فَلِلْمُوَلَّى أَنْ يَقْتَصَّ عِنْدَهُمَا، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ- رَحِمَهُ اللَّهُ- لَيْسَ لَهُ أَنْ يَقْتَصَّ، وَعَلَيْهِ أَرْشُ الْيَدِ لَا غَيْرُ، وَإِنْ كَانَ الْقَطْعُ بَعْدَ الْكِتَابَةِ فَمَاتَ وَكَانَ الْقَطْعُ خَطَأً أَوْ مَاتَ عَاجِزًا فَالْقِيمَةُ لِلْمَوْلَى، وَإِنْ مَاتَ عَنْ وَفَاءٍ فَالْقِيمَةُ لِلْوَرَثَةِ، وَإِنْ كَانَ عَمْدًا فَإِنْ مَاتَ عَاجِزًا فَلِلْمَوْلَى أَنْ يَقْتَصَّ، وَإِنْ مَاتَ عَنْ وَفَاءٍ مَاتَ حُرًّا ثُمَّ يُنْظَرُ إنْ كَانَ مَعَ الْمَوْلَى وَارِثٌ يَحْجُبُهُ أَوْ يُشَارِكُهُ فِي الْمِيرَاثِ فَلَا قِصَاصَ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَارِثٌ غَيْرَ الْمَوْلَى فَعَلَى الِاخْتِلَافِ الَّذِي ذَكَرْنَا، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ هَذَا إذَا كَانَتْ السِّرَايَةُ إلَى النَّفْسِ فَأَمَّا إذَا كَانَتْ إلَى الْعُضْوِ فَالْأَصْلُ أَنَّ الْجِنَايَةَ إذَا حَصَلَتْ فِي عُضْوٍ فَسَرَتْ إلَى عُضْوٍ آخَرَ- وَالْعُضْوُ الثَّانِي لَا قِصَاصَ فِيهِ- فَلَا قِصَاصَ فِي الْأَوَّلِ أَيْضًا، وَهَذَا الْأَصْلُ يَطَّرِدُ عَلَى أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ عَلَيْهِ الرَّحْمَةُ فِي مَسَائِلَ.
إذَا قَطَعَ أُصْبُعًا مِنْ يَدِ رَجُلٍ فَشُلَّتْ الْكَفُّ فَلَا قِصَاصَ فِيهِمَا، وَعَلَيْهِ دِيَةُ الْيَدِ بِلَا خِلَافٍ بَيْنَ أَصْحَابِنَا- رَحِمَهُمُ اللَّهُ- لِأَنَّ الْمَوْجُودَ مِنْ الْقَاطِعِ قَطْعٌ مُشِلٌّ لِلْكَفِّ، وَلَا يُقَدَّرُ الْمَقْطُوعُ عَلَى مِثْلِهِ فَلَمْ يَكُنْ الْمِثْلُ مُمْكِنَ الِاسْتِيفَاءِ فَلَا يَجِبُ الْقِصَاصُ؛ وَلِأَنَّ الْجِنَايَةَ وَاحِدَةٌ فَلَا يَجِبُ بِهَا ضَمَانَانِ مُخْتَلِفَانِ وَهُوَ الْقِصَاصُ وَالْمَالُ خُصُوصًا عِنْدَ اتِّحَادِ الْمَحَلِّ لِأَنَّ الْكَفَّ مَعَ الْأُصْبُعِ بِمَنْزِلَةِ عُضْوٍ وَاحِدٍ.
وَكَذَا إذَا قَطَعَ مَفْصِلًا مِنْ أُصْبُعٍ فَشُلَّ مَا بَقِيَ أَوْ شُلَّتْ الْكَفُّ لِمَا قُلْنَا فَإِنْ قَالَ الْمَقْطُوعُ: أَنَا أَقْطَعُ الْمَفْصِلَ، وَأَتْرُكُ مَا يَبِسَ لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْجِنَايَةَ وَقَعَتْ غَيْرُ مُوجِبَةٍ لِلْقِصَاصِ مِنْ الْأَصْلِ لِعَدَمِ إمْكَانِ الِاسْتِيفَاءِ عَلَى وَجْهِ الْمُمَاثَلَةِ عَلَى مَا بَيَّنَّا فَكَانَ الِاقْتِصَارُ عَلَى الْبَعْضِ اسْتِيفَاءَ مَا لَا حَقَّ لَهُ فِيهِ فَيُمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ كَمَا لَوْ شَجَّهُ مُنَقِّلَةً فَقَالَ الْمَشْجُوجُ أَنَا أَشُجُّهُ مُوضِحَةً وَأَتْرُكُ أَرْشَ مَا زَادَ لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ.
وَكَذَلِكَ إذَا كَسَرَ بَعْضَ سِنِّ إنْسَانٍ وَاسْوَدَّ مَا بَقِيَ فَلَيْسَ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ قِصَاصٌ؛ لِأَنَّ قِصَاصَهُ هُوَ كَسْرٌ مُسْوَدٌّ لِلْبَاقِي، وَذَلِكَ غَيْرُ مُمْكِنٍ؛ وَلِأَنَّ الْجِنَايَةَ وَاحِدَةٌ فَلَا تُوجِبُ ضَمَانَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ وَلَوْ قَطَعَ أُصْبُعًا فَشُلَّتْ إلَى جَنْبِهَا أُخْرَى فَلَا قِصَاصَ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَعَلَيْهِ دِيَةُ الْأُصْبُعَيْنِ.
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ وَزُفَرُ وَالْحَسَنُ فِي الْأَوَّلِ لَا قِصَاصَ وَفِي الثَّانِي الْأَرْشُ، وَجْهُ قَوْلِهِمْ أَنَّ الْمَحَلَّ مُتَعَدِّدٌ وَالْفِعْلُ يَتَعَدَّدُ بِتَعَدُّدِ الْمَحَلِّ حُكْمًا، وَإِنْ كَانَ مُتَّحِدًا حَقِيقَةً لِتَعَدُّدِ أَثَرِهِ، وَهَاهُنَا تَعَدَّدَ الْأَثَرُ فَيُجْعَلُ فِعْلَيْنِ فَيُفْرَدُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِحُكْمِهِ فَيَجِبُ الْقِصَاصُ فِي الْأَوَّلِ وَالدِّيَةُ فِي الثَّانِي كَمَا لَوْ قَطَعَ أُصْبُعَ إنْسَانٍ فَانْسَلَّ السِّكِّينُ إلَى أُصْبُعٍ أُخْرَى خَطَأً فَقَطَعَهَا حَتَّى يَجِبَ الْقِصَاصَ فِي الْأَوَّلِ وَالدِّيَةُ فِي الثَّانِي.
وَكَمَا لَوْ رَمَى سَهْمًا إلَى إنْسَانٍ فَأَصَابَهُ وَنَفَذَ مِنْهُ وَأَصَابَ آخَرَ حَتَّى يَجِبُ الْقِصَاصُ فِي الْأَوَّلِ وَالدِّيَةُ فِي الثَّانِي لِمَا قُلْنَا.
وَكَذَلِكَ هَذَا.
وَإِذَا تَعَدَّدَتْ الْجِنَايَةُ تُفْرَدُ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا بِحُكْمِهَا فَيَجِبُ الْقِصَاصُ فِي الْأُولَى وَالْأَرْشُ فِي الثَّانِيَةِ.
وَجْهُ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْمُسْتَحَقَّ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ هُوَ الْمِثْلُ، وَالْمِثْلُ وَهُوَ الْقَطْعُ الْمُشِلُّ هاهنا غَيْرُ مَقْدُورِ الِاسْتِيفَاءِ فَلَا يَثْبُتُ الِاسْتِحْقَاقُ؛ وَلِأَنَّ الْجِنَايَةَ مُتَّحِدَةٌ حَقِيقَةً، وَهِيَ قَطْعُ الْأُصْبُعِ، وَقَدْ تَعَلَّقَ بِهِ ضَمَانُ الْمَالِ فَلَا يَتَعَلَّقُ بِهِ ضَمَانُ الْقِصَاصِ بِخِلَافِ مَا إذَا قَطَعَ أُصْبُعًا عَمْدًا فَنَفَذَ السِّكِّينُ إلَى أُخْرَى خَطَأً لِأَنَّ الْمَوْجُودَ هُنَاكَ فِعْلَانِ حَقِيقَةً فَجَازَ أَنْ يُفْرَدَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِحُكْمٍ، وَفِي مَسْأَلَةِ الرَّمْيِ جُعِلَ الْفِعْلُ الْمُتَّحِدُ حَقِيقَةً مُتَعَدِّدًا شَرْعًا بِخِلَافِ الْحَقِيقَةِ، وَمَنْ ادَّعَى خِلَافَ الْحَقِيقَةِ هاهنا يَحْتَاجُ إلَى الدَّلِيلِ.
وَلَوْ قَطَعَ أُصْبُعًا فَسَقَطَ إلَى جَنْبِهَا أُخْرَى فَلَا قِصَاصَ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَعِنْدَهُمَا فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ عَنْهُمَا يَجِبُ فِي الْأَوَّلِ الْقِصَاصُ، وَفِي الثَّانِي الْأَرْشُ، وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ سِمَاعَةَ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ يَجِبُ الْقِصَاصُ فِيهِمَا؛ لِأَنَّ مِنْ أَصْلِهِ عَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ أَنَّ الْجِرَاحَةَ الَّتِي فِيهَا الْقِصَاصُ إذَا تَوَلَّدَ مِنْهَا مَا يُمْكِنُ فِيهِ الْقِصَاصُ يَجِبُ الْقِصَاصُ فِيهِمَا جَمِيعًا، وَهَاهُنَا يُمْكِنُ وَفِيمَا إذَا قَطَعَ أُصْبُعًا فَشُلَّتْ أُخْرَى بِجَنْبِهَا لَا يُمْكِنُ فَوَجَبَ الْقِصَاصُ فِي الْأُولَى وَالْأَرْشُ فِي الثَّانِيَةِ.
وَجْهُ ظَاهِرِ قَوْلِهِمَا عَلَى نَحْوِ مَا ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ أَنَّ الْمَحَلَّ مُتَعَدِّدٌ، وَأَنَّهُ يُوجِبُ تَعَدُّدَ الْفِعْلِ عِنْدَ تَعَدُّدِ الْأَثَرِ، وَقَدْ وُجِدَ هاهنا فَيُجْعَلُ كَجِنَايَتَيْنِ مُخْتَلِفَتَيْنِ فَيَتَعَلَّقُ بِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا حُكْمُهَا، وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ لَا سَبِيلَ إلَى اسْتِيفَاءِ الْقِصَاصِ عَلَى وَجْهِ الْمُمَاثَلَةِ لِأَنَّ ذَلِكَ هُوَ الْقَطْعُ الْمُسْقِطُ لِلْأُصْبُعِ، وَذَلِكَ غَيْرُ مُمْكِنٍ؛ وَلِأَنَّ الْجِنَايَةَ وَاحِدَةٌ حَقِيقَةً فَلَا تُوجِبُ إلَّا ضَمَانًا وَاحِدًا، وَقَدْ وَجَبَ الْمَالُ فَلَا يَجِبُ الْقِصَاصَ.
وَلَوْ قَطَعَ أُصْبُعَ رَجُلٍ عَمْدًا فَسَقَطَتْ الْكَفُّ مِنْ الْمَفْصِلِ فَلَا قِصَاصَ فِي ذَلِكَ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ- رَحِمَهُ اللَّهُ- وَفِيهِ دِيَةُ الْيَدِ؛ لِأَنَّ اسْتِيفَاءَ الْمِثْلِ- وَهُوَ الْقَطْعُ الْمُسْقِطُ لِلْكَفِّ- مُتَعَذِّرٌ فَيُمْتَنَعُ الْوُجُوبُ؛ وَلِأَنَّ الْكَفَّ مَعَ الْأُصْبُعِ كَعُضْوٍ وَاحِدٍ فَكَانَتْ الْجِنَايَةُ وَاحِدَةً حَقِيقَةً وَحُكْمًا، وَقَدْ تَعَلَّقَ بِهِمَا ضَمَانُ الْمَالِ فَلَا يَتَعَلَّقُ بِهِمَا الْقِصَاصُ وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ يُقْتَصُّ مِنْهُ فَتُقْطَعُ يَدُهُ مِنْ الْمَفْصِلِ فَرَّقَ أَبُو يُوسُفَ بَيْنَ هَذَا، وَبَيْنَ مَا إذَا قَطَعَ أُصْبُعًا فَسَقَطَتْ أُخْرَى إلَى جَنْبِهَا أَنَّهُ لَا يَجِبُ الْقِصَاصُ فِي الثَّانِيَةِ؛ لِأَنَّ الْأُصْبُعَ جُزْءٌ مِنْ الْكَفِّ، وَالسِّرَايَةُ تَتَحَقَّقُ مِنْ الْجُزْءِ إلَى الْجُمْلَةِ كَمَا تَتَحَقَّقُ مِنْ الْيَدِ إلَى النَّفْسِ، وَالْأُصْبُعَانِ عُضْوَانِ مُفْرَدَانِ لَيْسَ أَحَدُهُمَا جُزْءَ الْآخَرِ فَلَا تَتَحَقَّقُ السِّرَايَةُ مِنْ أَحَدِهِمَا إلَى الْآخَرِ فَوَجَبَ الْقِصَاصُ فِي الْأُولَى دُونَ الثَّانِيَةِ، وَعَلَى مَا رَوَى مُحَمَّدٌ- رَحِمَهُ اللَّهُ- فِي النَّوَادِرِ يَجِبُ الْقِصَاصُ هاهنا أَيْضًا كَمَا قَالَ أَبُو يُوسُفَ- رَحِمَهُ اللَّهُ اللَّهُ- لِأَنَّهُ جِنَايَةٌ وَاحِدَةٌ، وَقَدْ سَرَتْ إلَى مَا يُمْكِنُ الْقِصَاصُ فِيهِ فَيُجْعَلُ كَأَنَّهُ قَطَعَ الْكَفَّ مِنْ الزَّنْدِ.
وَلَوْ كَسَرَ بَعْضَ سِنِّ إنْسَانٍ فَسَقَطَتْ لَا قِصَاصَ فِيهِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ عَلَيْهِ الرَّحْمَةُ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ الِاقْتِصَاصُ بِكَسْرِ مُسْقِطٍ لِلسِّنِّ.
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ يَجِبُ الْقِصَاصُ كَمَا قَالَ فِي الْأُصْبُعِ إذَا قُطِعَتْ فَسَقَطَتْ مِنْهَا الْكَفُّ.
وَكَذَلِكَ عِنْدَ مُحَمَّدٍ يَجِبُ الْقِصَاصُ عَلَى رِوَايَةِ النَّوَادِرِ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ أَصْلِهِ.
وَكَذَلِكَ لَوْ ضَرَبَ سِنَّ إنْسَانٍ فَتَكَسَّرَ بَعْضُهَا وَتَحَرَّكَ الْبَاقِي وَاسْتَوْفَى حَوْلًا أَنَّهَا إنْ اسْوَدَّتْ فَلَا قِصَاصَ فِيهَا لِتَعَذُّرِ اسْتِيفَاءِ الْمِثْلِ، وَهُوَ الْكَسْرُ الْمُسْوَدُّ، وَإِنْ سَقَطَتْ فَكَذَلِكَ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ- رَحِمَهُ اللَّهُ، وَفِيهَا الْأَرْشُ لِعَدَمِ إمْكَانِ اسْتِيفَاءِ الْمِثْلِ، وَهُوَ الْكَسْرُ الْمُسْقِطُ، فَيَجِبُ فِيهَا الْأَرْشُ.
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ فِيهَا الْقِصَاصُ كَمَا قَالَ فِي الْأُصْبُعِ إذَا قُطِعَتْ الْكَفُّ.
وَلَوْ شَجَّ إنْسَانًا مُوضِحَةً مُتَعَمِّدًا فَذَهَبَ مِنْهَا بَصَرُهُ فَلَا قِصَاصَ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَفِيهَا وَفِي الْبَصَرِ الْأَرْشُ وَقَالَا فِي الْمُوضِحَةِ الْقِصَاصُ وَفِي الْبَصَرِ الدِّيَةُ، هَذِهِ رِوَايَةُ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ عَنْ مُحَمَّدٍ.
وَرَوَى ابْنُ سِمَاعَةَ فِي نَوَادِرِهِ عَنْهُ أَنَّ فِيهِمَا جَمِيعًا الْقِصَاصَ.
وَجْهُ هَذِهِ الرِّوَايَةِ أَنَّهُ تَوَلَّدَ مِنْ جِنَايَةِ الْعَمْدِ إلَى عُضْوٍ يُمْكِنُ فِيهِ الْقِصَاصُ فَيَجِبُ فِيهِ الْقِصَاصُ كَمَا إذَا سَرَى إلَى النَّفْسِ وَجْهُ ظَاهِرِ قَوْلِهِمَا أَنَّ تَلَفَ الْبَصَرِ حَصَلَ مِنْ طَرِيقِ التَّسْبِيبِ لَا مِنْ طَرِيقِ السِّرَايَةِ بِدَلِيلِ أَنَّ الشَّجَّةَ تَبْقَى بَعْدَ ذَهَابِ الْبَصَرِ، وَحُدُوثُ السِّرَايَةِ يُوجِبُ تَغَيُّرَ الْجِنَايَةِ كَالْقَطْعِ إذَا سَرَى إلَى النَّفْسِ أَنَّهُ لَا يَبْقَى قَطْعًا بَلْ يَصِيرُ قَتْلًا، وَهُنَا الشَّجَّةُ لَمْ تَتَغَيَّرْ بَلْ بَقِيَتْ شَجَّةً كَمَا كَانَتْ فَدَلَّ أَنَّ ذَهَابَ الْبَصَرِ لَيْسَ مِنْ طَرِيقِ السِّرَايَةِ بَلْ مِنْ طَرِيقِ التَّسْبِيبِ، وَالْجِنَايَةُ بِطَرِيقِ التَّسْبِيبِ لَا تُوجِبُ الْقِصَاصَ كَمَا فِي حَفْرِ الْبِئْرِ وَنَحْوِ ذَلِكَ.
وَلَوْ ذَهَبَتْ عَيْنَاهُ وَلِسَانُهُ وَسَمْعُهُ وَجِمَاعُهُ فَلَا قِصَاصَ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ عَلَى أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَعَلَى قَوْلِهِمَا فِي الْمُوضِحَةِ الْقِصَاصُ وَلَا قِصَاصَ فِي الْعَيْنَيْنِ فِي ظَاهِرِ قَوْلِهِمَا بَلْ فِيهِمَا الْأَرْشُ، وَعَلَى رِوَايَةِ النَّوَادِرِ عَنْ مُحَمَّدٍ فِيهِمَا الْقِصَاصُ دُونَ اللِّسَانِ وَالسَّمْعِ وَالْجِمَاعِ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ فِيهِمَا الْقِصَاصُ إذْ لَا قِصَاصَ فِي ذَهَابِ مَنْفَعَةِ اللِّسَانِ وَالسَّمْعِ وَالْجِمَاعِ فِي الشَّرْعِ، وَفِي ذَهَابِ الْبَصَرِ قِصَاصٌ فِي الشَّرِيعَةِ.
وَلَوْ ضَرَبَهُ بِعَصًا فَأَوْضَحَهُ ثُمَّ عَادَ فَضَرَبَهُ أُخْرَى إلَى جَنْبِهَا ثُمَّ تَآكَلَتَا حَتَّى صَارَتْ وَاحِدَةً فَهُمَا مُوضِحَتَانِ وَلَا قِصَاصَ فِيهِمَا، أَمَّا عَلَى أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ فَلِعَدَمِ إمْكَانِ اسْتِيفَاءِ الْمِثْلِ، وَهُمَا شَجَّتَانِ مُوضِحَتَانِ تَأَكَّلَ بَيْنَهُمَا.
(وَأَمَّا) عَلَى أَصْلِهِمَا فَلِأَنَّ مَا تَأَكَّلَ بَيْنَ الْمُوضِحَتَيْنِ تَلِفَ بِسَبَبِ الْجِرَاحَةِ، وَالْإِتْلَافُ تَسْبِيبًا لَا يُوجِبُ الْقِصَاصَ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الْمُوَفِّقُ.
وَلَا قِصَاصَ فِي الْعَيْنِ إذَا قُوِّرَتْ أَوْ فُسِخَتْ لِأَنَّا إذَا فَعَلْنَا مَا فَعَلَ، وَهُوَ التَّقْوِيرُ وَالْفَسْخُ لَا يُمْكِنُ اسْتِيفَاءُ الْمِثْلِ إذْ لَيْسَ لَهُ حَدٌّ مَعْلُومٌ، وَإِنْ أَذْهَبْنَا ضَوْءَهُ فَلَمْ نَفْعَلْ مِثْلَ مَا فَعَلَ فَتَعَذَّرَ الِاسْتِيفَاءُ بِصِفَةِ الْمُمَاثَلَةِ فَامْتَنَعَ الْوُجُوبُ وَصَارَ كَمَنْ قَطَعَ يَدَ إنْسَانٍ مِنْ السَّاعِدِ أَنَّهُ لَا يَجِبُ الْقِصَاصُ لِأَنَّهُ لَا سَبِيلَ إلَى الْقَطْعِ مِنْ السَّاعِدِ وَلَا مِنْ الزَّنْدِ لِمَا قُلْنَا فَامْتَنَعَ الْوُجُوبُ، كَذَا هَذَا.
وَإِنْ ضُرِبَ عَلَيْهَا فَذَهَبَ ضَوْءُهَا مَعَ بَقَاءِ الْحَدَقَةِ عَلَى حَالِهَا لَمْ تَنْخَسِفْ فَفِيهَا الْقِصَاصُ لِقَوْلِهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {الْعَيْنَ بِالْعَيْنِ} وَلِأَنَّ الْقِصَاصَ عَلَى سَبِيلِ الْمُمَاثَلَةِ مُمْكِنٌ بِأَنْ يُجْعَلَ عَلَى وَجْهِهِ الْقُطْنُ الْمَبْلُولُ، وَتُحْمَى الْمِرْآةُ، وَتُقَرَّبُ مِنْ عَيْنِهِ حَتَّى يَذْهَبَ ضَوْءُهَا، وَقِيلَ أَوَّلُ مِنْ اهْتَدَى إلَى ذَلِكَ سَيِّدُنَا عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَأَشَارَ إلَى مَا ذَكَرْنَا فَإِنَّهُ رُوِيَ أَنَّهُ وَقَعَتْ هَذِهِ الْحَادِثَةُ فِي زَمَنِ سَيِّدِنَا عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَجَمَعَ الصَّحَابَةَ الْكِرَامَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَشَاوَرَهُمْ فِي ذَلِكَ فَلَمْ يَكُنْ عِنْدَهُمْ حُكْمُهَا حَتَّى جَاءَ سَيِّدُنَا عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَأَشَارَ إلَى مَا ذَكَرْنَا فَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ أَحَدٌ فَقَضَى بِهِ سَيِّدُنَا عُثْمَانُ بِمَحْضَرٍ مِنْ الصَّحَابَةِ الْكِرَامِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ فَيَكُونُ إجْمَاعًا، وَإِنْ انْخَسَفَتْ فَلَا قِصَاصَ لِأَنَّ الثَّانِيَ قَدْ لَا يَقَعُ خَاسِفًا بِهَا فَلَا يَكُونُ مِثْلَ الْأَوَّلِ.
وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ لَا قِصَاصَ فِي عَيْنِ الْأَحْوَلِ؛ لِأَنَّ الْحَوَلَ نَقْصٌ فِي الْعَيْنِ فَيَكُونُ اسْتِيفَاءَ الْكَامِلِ بِالنَّاقِصِ فَلَا تَتَحَقَّقُ الْمُمَاثَلَةُ، وَلِهَذَا لَا تُقْطَعُ الْيَدُ الصَّحِيحَةُ بِالْيَدِ الشَّلَّاءِ، كَذَا هَذَا وَلَا قِصَاصَ فِي الْأَشْفَارِ وَالْأَجْفَانِ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ اسْتِيفَاءُ الْمِثْلِ فِيهَا.
(وَأَمَّا) الْأُذُنُ فَإِنْ اسْتَوْعَبَهَا فَفِيهَا الْقِصَاصُ لِقَوْلِهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ} وَلِأَنَّ اسْتِيفَاءَ الْمِثْلِ فِيهَا مُمْكِنٌ فَإِنْ قَطَعَ بَعْضَهَا فَإِنْ كَانَ لَهُ حَدٌّ يُعْرَفُ فَفِيهِ الْقِصَاصُ، وَإِلَّا فَلَا.
(وَأَمَّا) الْأَنْفُ فَإِنْ قُطِعَ الْمَارِنُ فَفِيهِ الْقِصَاصُ بِلَا خِلَافٍ بَيْنَ أَصْحَابِنَا رَحِمَهُمُ اللَّهُ لِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ} وَلِأَنَّ اسْتِيفَاءَ الْمِثْلِ فِيهِ مُمْكِنٌ؛ لِأَنَّ لَهُ حَدًّا مَعْلُومًا، وَهُوَ مَا لَانَ مِنْهُ فَإِنْ قُطِعَ بَعْضُ الْمَارِنِ فَلَا قِصَاصَ فِيهِ لِتَعَذُّرِ اسْتِيفَاءِ الْمِثْلِ، وَإِنْ قُطِعَ قَصَبَةُ الْأَنْفِ فَلَا قِصَاصَ فِيهِ لِأَنَّهُ عَظْمٌ، وَلَا قِصَاصَ فِي الْعَظْمِ وَلَا فِي السِّنِّ لِمَا نَذْكُرُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ إنْ اسْتَوْعَبَ فَفِيهِ الْقِصَاصُ وَقَالَ مُحَمَّدٌ لَا قِصَاصَ فِيهِ وَإِنْ اسْتَوْعَبَ.
وَلَا خِلَافَ بَيْنَهُمَا فِي الْحَقِيقَةِ؛ لِأَنَّ أَبَا يُوسُفَ أَرَادَ اسْتِيعَابَ الْمَارِنِ، وَفِيهِ الْقِصَاصُ بِلَا خِلَافٍ، وَمُحَمَّدٌ- رَحِمَهُ اللَّهُ- أَرَادَ بِهِ اسْتِيعَابَ الْقَصَبَةِ، وَلَا قِصَاصَ فِيهَا بِلَا خِلَافٍ.
(وَأَمَّا) الشَّفَةُ فَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ قَالَ إذَا قَطَعَ شَفَةَ الرَّجُلِ السُّفْلَى أَوْ الْعُلْيَا.
وَكَانَ يُسْتَطَاعُ أَنْ يُقْتَصَّ مِنْهُ فَفِيهِ الْقِصَاصُ، وَذَكَرَ الْكَرْخِيُّ- رَحِمَهُ اللَّهُ- أَنَّهُ إنْ اسْتَقْصَاهَا بِالْقَطْعِ فَفِيهَا الْقِصَاصُ لِإِمْكَانِ اسْتِيفَاءِ الْمِثْلِ عِنْدَ الِاسْتِقْصَاءِ، وَإِنْ قَطَعَ بَعْضَهَا فَلَا قِصَاصَ فِيهِ لِعَدَمِ الْإِمْكَانِ، وَلَا قِصَاصَ فِي عَظْمٍ إلَّا فِي السِّنِّ لِأَنَّهُ لَا يُعْلَمُ مَوْضِعُهُ، وَلَا يُؤْمَنُ فِيهِ عَنْ التَّعَدِّي أَيْضًا.
وَقَدْ رُوِيَ عَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ «لَا قِصَاصَ فِي عَظْمٍ»، وَفِي السِّنِّ الْقِصَاصُ سَوَاءٌ كُسِرَ أَوْ قُلِعَ لِقَوْلِ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ} وَلِأَنَّهُ يُمْكِنُ اسْتِيفَاءُ الْمِثْلِ فِيهِ بِأَنْ يُؤْخَذَ فِي الْكَسْرِ مِنْ سِنِّ الْكَاسِرِ مِثْلُ مَا كُسِرَ بِالْمِبْرَدِ، وَفِي الْقَلْعِ يُؤْخَذُ سِنُّهُ بِالْمِبْرَدِ إلَى أَنْ يَنْتَهِي إلَى اللَّحْمِ وَيَسْقُطُ مَا سِوَى ذَلِكَ، وَقِيلَ فِي الْقَلْعِ أَنَّهُ يُقْلَعُ سِنُّهُ؛ لِأَنَّ تَحَقُّقَ الْمُمَاثَلَةِ فِيهِ، وَالْأَوَّلُ اسْتِيفَاءٌ عَلَى وَجْهِ النُّقْصَانِ إلَّا أَنَّ فِي الْقَلْعِ احْتِمَالَ الزِّيَادَةِ لِأَنَّهُ لَا يُؤْمَنُ فِيهِ أَنْ يَفْعَلَ الْمَقْلُوعُ أَكْثَرَ مِمَّا فَعَلَ الْقَالِعُ.
(وَأَمَّا) اللِّسَانُ فَإِنْ قُطِعَ بَعْضُهُ فَلَا قِصَاصَ فِيهِ لِعَدَمِ إمْكَانِ اسْتِيفَاءِ الْمِثْلِ، وَإِنْ اسْتَوْعَبَ فَقَدْ ذَكَرَ فِي الْأَصْلِ أَنَّ اللِّسَانَ لَا يُقْتَصُّ فِيهِ وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ فِيهِ الْقِصَاصُ وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ الْقَطْعَ إذَا كَانَ مُسْتَوْعِبًا أَمْكَنَ اسْتِيفَاءُ الْمِثْلِ فِيهِ بِالِاسْتِيعَابِ فَيَكُونُ الْجَزَاءُ مِثْلَ الْجِنَايَةِ.
وَجْهُ مَا ذَكَرَ فِي الْأَصْلِ أَنَّ اللِّسَانَ يَنْقَبِضُ وَيَنْبَسِطُ فَلَا يُمْكِنُ اسْتِيفَاءُ الْقِصَاصِ فِيهِ بِصِفَةِ الْمُمَاثَلَةِ، وَإِنْ قَطَعَ الْحَشَفَةَ فَفِيهَا الْقِصَاصُ لِإِمْكَانِ اسْتِيفَاءِ الْمِثْلِ؛ لِأَنَّ لَهَا حَدًّا مَعْلُومًا، وَإِنْ قَطَعَ بَعْضَهَا أَوْ بَعْضَ الذَّكَرِ فَلَا قِصَاصَ فِيهِ لِأَنَّهُ لَا حَدَّ لِذَلِكَ فَلَا يُمْكِنُ الْقَطْعُ بِصِفَةِ الْمُمَاثَلَةِ كَمَا لَوْ قَطَعَ بَعْضَ اللِّسَانِ، وَلَوْ قَطَعَ الذَّكَرَ مِنْ أَصْلِهِ ذَكَرَ فِي الْأَصْلِ أَنَّهُ لَا قِصَاصَ فِيهِ.
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ فِيهِ الْقِصَاصُ.
وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ عِنْدَ الِاسْتِيعَابِ أَمْكَنَ الِاسْتِيفَاءُ عَلَى وَجْهِ الْمُمَاثَلَةِ فَيَجِبُ الْقِصَاصُ.
وَجْهُ مَا ذَكَرَ فِي الْأَصْلِ أَنَّ الذَّكَرَ يَنْقَبِضُ مَرَّةً وَيَنْبَسِطُ أُخْرَى فَلَا يُمْكِنُ مُرَاعَاةُ الْمُمَاثَلَةِ فِيهِ فَلَا يَجِبُ الْقِصَاصُ.
وَلَا قِصَاصَ فِي جَزِّ شَعْرِ الرَّأْسِ وَحَلْقِهِ وَحَلْقِ الْحَاجِبَيْنِ وَالشَّارِبِ وَاللِّحْيَةِ وَإِنْ لَمْ يَنْبُتْ بَعْدَ الْحَلْقِ وَالنَّتْفِ.
(أَمَّا) الْجَزُّ فَلِأَنَّهُ لَا يُعْلَمُ مَوْضِعُهُ فَلَا يُمْكِنُ أَخْذُ الْمِثْلِ.
(وَأَمَّا) الْحَلْقُ وَالنَّتْفُ الْمَوْجُودُ مِنْ الْحَالِقِ وَالنَّاتِفِ فَلِأَنَّ الْمُسْتَحِقَّ حَلْقُ وَنَتْفُ غَيْرِ مَنْبَتٍ، وَذَلِكَ لَيْسَ فِي وُسْعِ الْمَحْلُوقِ وَالْمَنْتُوفِ لِجَوَازِ أَنْ يَقَعَ حَلْقُهُ وَنَتْفُهُ مَنْبَتًا فَلَا يَكُونُ مِثْلَ الْأَوَّلِ.
وَذَكَرَ فِي النَّوَادِرِ أَنَّهُ يَجِبُ الْقِصَاصُ إذَا لَمْ يَنْبُتْ، وَلَمْ يَذْكُرْ حُكْمَ ثَدْيِ الْمَرْأَةِ أَنَّهُ هَلْ يَجِبُ فِيهِ الْقِصَاصُ أَمْ لَا؟ وَكَذَا لَمْ يَذْكُرْ حُكْمَ الْأُنْثَيَيْنِ فِي وُجُوبِ الْقِصَاصِ فِيهِمَا، وَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَجِبَ الْقِصَاصُ فِيهِمَا؛ لِأَنَّ كُلَّ ذَلِكَ لَيْسَ لَهُ مَفْصِلٌ مَعْلُومٌ فَلَا يُمْكِنُ اسْتِيفَاءُ الْمِثْلِ.
(وَأَمَّا) حَلَمَةُ ثَدْيِ الْمَرْأَةِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَجِبَ الْقِصَاصُ فِيهَا؛ لِأَنَّ لَهَا حَدًّا مَعْلُومًا فَيُمْكِنُ اسْتِيفَاءُ الْمِثْلِ فِيهَا كَالْحَشَفَةِ وَلَوْ ضَرَبَ عَلَى رَأْسِ إنْسَانٍ حَتَّى ذَهَبَ عَقْلُهُ أَوْ سَمْعُهُ أَوْ كَلَامُهُ أَوْ شَمُّهُ أَوْ ذَوْقُهُ أَوْ جِمَاعُهُ أَوْ مَاءُ صُلْبِهِ فَلَا قِصَاصَ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يُضْرَبَ ضَرْبًا تَذْهَبُ بِهِ هَذِهِ الْأَشْيَاءُ فَلَمْ يَكُنْ اسْتِيفَاءُ الْمِثْلِ مُمْكِنًا فَلَا يَجِبُ الْقِصَاصُ.
وَكَذَلِكَ لَوْ ضَرَبَ عَلَى يَدِ رَجُلٍ أَوْ رِجْلِهِ فَشُلَّتْ لَا قِصَاصَ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يُضْرَبَ ضَرْبًا مُشِلًّا فَلَمْ يَكُنْ الْمِثْلُ مَقْدُورَ الِاسْتِيفَاءِ فَلَا يَجِبُ الْقِصَاصَ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ.
وَأَمَّا الشِّجَاجُ فَلَا خِلَافَ فِي أَنَّ الْمُوضِحَةَ فِيهَا الْقِصَاصُ لِعُمُومِ قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} إلَّا مَا خُصَّ بِدَلِيلٍ وَلِأَنَّهُ يُمْكِنُ اسْتِيفَاءُ الْقِصَاصِ فِيهَا عَلَى سَبِيلِ الْمُمَاثَلَةِ؛ لِأَنَّ لَهَا حَدًّا تَنْتَهِي إلَيْهِ السِّكِّينُ، وَهُوَ الْعَظْمُ، وَلَا خِلَافَ فِي أَنَّهُ لَا قِصَاصَ فِيمَا بَعْدَ الْمُوضِحَةِ لِتَعَدُّدِ الِاسْتِيفَاءِ فِيهِ عَلَى وَجْهِ الْمُمَاثَلَةِ؛ لِأَنَّ الْهَاشِمَةَ تَهْشِمُ الْعَظْمَ، وَالْمُنَقِّلَةَ تَهْشِمُ وَتُنَقِّلُ بَعْدَ الْهَشِمِ، وَلَا قِصَاصَ فِي هَشْمِ الْعَظْمِ لِمَا بَيَّنَّا، وَالْآمَّةُ لَا يُؤْمَنُ فِيهَا مِنْ أَنْ يَنْتَهِيَ السِّكِّينُ إلَى الدِّمَاغِ فَلَا يُمْكِنُ اسْتِيفَاءُ الْقِصَاصِ فِي هَذِهِ الشِّجَاجِ عَلَى وَجْهِ الْمُمَاثَلَةِ فَلَا يَجِبُ الْقِصَاصُ بِخِلَافِ الْمُوضِحَةِ.
(وَأَمَّا) مَا قَبْلَ الْمُوضِحَةِ فَقَدْ ذَكَرَ مُحَمَّدٌ فِي الْأَصْلِ أَنَّهُ يَجِبُ الْقِصَاصُ فِي الْمُوضِحَةِ وَالسِّمْحَاقِ وَالْبَاضِعَةِ وَالدَّامِيَةِ، وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ لَا قِصَاصَ فِي الشِّجَاجِ إلَّا فِي الْمُوضِحَةِ وَالسِّمْحَاقِ إنْ أَمْكَنَ الْقِصَاصُ فِي السِّمْحَاقِ.
وَرُوِيَ عَنْ النَّخَعِيّ- رَحِمَهُ اللَّهُ- أَنَّهُ قَالَ مَا دُونَ الْمُوضِحَةِ خُدُوشٌ وَفِيهَا حُكُومَةُ عَدْلٍ.
وَكَذَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ رَحِمَهُمَا اللَّهُ.
وَعَنْ الشُّعَبِيِّ- رَحِمَهُ اللَّهُ- أَنَّهُ قَالَ مَا دُونَ الْمُوضِحَةِ فِيهِ أُجْرَةُ الطَّبِيبِ (وَجْهُ) رِوَايَةِ الْحَسَنِ- رَحِمَهُ اللَّهُ- أَنَّ مَا دُونَ الْمُوضِحَةِ مِمَّا ذَكَرْنَا لَا حَدَّ لَهُ يَنْتَهِي إلَيْهِ السِّكِّينُ فَلَا يُمْكِنُ الِاسْتِيفَاءُ بِصِفَةِ الْمُمَاثَلَةِ (وَجْهُ) رِوَايَةِ الْأَصْلِ أَنَّ اسْتِيفَاءَ الْمِثْلِ فِيهِ مُمْكِنٌ لِأَنَّهُ يُمْكِنُ مَعْرِفَةُ قَدْرِ غَوْرِ الْجِرَاحَةِ بِالْمِسْبَارِ ثُمَّ إذَا عُرِفَ قَدْرُهُ بِهِ يُعْمَلُ حَدِيدَةٌ عَلَى قَدْرِهِ فَتَنْفُذُ فِي اللَّحْمِ إلَى آخِرِهَا فَيَسْتَوْفِي مِنْهُ مِثْلَ مَا فَعَلَ، ثُمَّ مَا يَجِبُ فِيهِ الْقِصَاصُ مِنْ الشِّجَاجِ لَا يُقْتَصُّ مِنْ الشَّاجِّ إلَّا فِي مَوْضِعِ الشَّجَّةِ مِنْ الْمَشْجُوجِ مِنْ مُقَدَّمِ رَأْسِهِ وَمُؤَخَّرِهِ وَوَسَطِهِ وَجَنْبَيْهِ؛ لِأَنَّ وُجُوبَ الْقِصَاصُ لِلشَّيْنِ الَّذِي يَلْحَقُ الْمَشْجُوجَ، وَذَا يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْمَوَاضِعِ مِنْ الرَّأْسِ.
أَلَا تَرَى أَنَّ الشَّيْنَ فِي مُؤَخَّرِ الرَّأْسِ لَا يَكُونُ مِثْلَ الشَّيْنِ الَّذِي فِي مُقَدَّمِهِ؟ وَلِهَذَا يُسْتَوْفَى عَلَى مِسَاحَةِ الشَّجَّةِ مِنْ طُولِهَا وَعَرْضِهَا مَا أَمْكَنَ لِاخْتِلَافِ الشَّيْنِ بِاخْتِلَافِ الشَّجَّةِ فِي الصِّغَرِ وَالْكِبْرِ، وَعَلَى هَذَا يُخَرَّجُ مَا إذَا شَجَّ رَجُلًا مُوضِحَةً فَأَخَذَتْ الشَّجَّةُ مَا بَيْنَ قَرْنَيْ الْمَشْجُوجِ، وَهِيَ لَا تَأْخُذُ مَا بَيْنَ قَرْنَيْ الشَّاجِّ لِصِغَرِ رَأْسِ الْمَشْجُوجِ وَكِبَرِ رَأْسِ الشَّاجِّ أَنَّهُ لَا يُسْتَوْعَبُ مَا بَيْنَ قَرْنَيْ الشَّاجِّ فِي الْقِصَاصِ؛ لِأَنَّ فِي الِاسْتِيعَابِ اسْتِيفَاءَ الزِّيَادَةِ، وَفِيهِ زِيَادَةُ الشَّيْنِ وَهَذَا لَا يَجُوزُ، وَلَكِنْ يُخَيَّرُ الْمَشْجُوجُ إنْ شَاءَ اقْتَصَّ مِنْ الشَّاجِّ حَتَّى يَبْلُغَ مِقْدَارَ شَجَّتِهِ فِي الطُّولِ ثُمَّ يَكُفُّ، وَإِنْ شَاءَ عَدَلَ إلَى الْأَرْشِ لِأَنَّهُ وَجَدَ حَقَّهُ نَاقِصًا؛ لِأَنَّ الشَّجَّةَ الْأُولَى وَقَعَتْ مُسْتَوْعَبَةٌ، وَالثَّانِيَةُ لَا يُمْكِنُ اسْتِيعَابُهَا فَيَثْبُتُ لَهُ الْخِيَارُ فَإِنْ شَاءَ اسْتَوْفَى حَقَّهُ نَاقِصًا تَشَفِّيًا لِلصَّدْرِ، وَإِنْ شَاءَ عَدَلَ إلَى الْأَرْشِ كَمَا قُلْنَا فِي الْأَشَلِّ إذَا قَطَعَ يَدَ الصَّحِيحِ فَإِنْ اخْتَارَ الْقِصَاصَ فَلَهُ أَنْ يَبْدَأَ مِنْ أَيِّ الْجَانِبَيْنِ شَاءَ؛ لِأَنَّ كُلَّ ذَلِكَ حَقُّهُ فَلَهُ أَنْ يُبْتَدَأَ مِنْ أَيِّهِمَا شَاءَ، وَإِنْ كَانَتْ الشَّجَّةُ تَأْخُذُ مَا بَيْنَ قَرْنَيْ الْمَشْجُوجِ وَلَا تَفْضُلُ وَهِيَ مَا بَيْنَ قَرْنَيْ الشَّاجِّ، وَتَفْضُلُ عَنْ قَرْنَيْهِ لِكِبَرِ رَأْسِ الْمَشْجُوجِ وَصِغَرِ رَأْسِ الشَّاجِّ فَلِلْمَشْجُوجِ الْخِيَارُ إنْ شَاءَ أَخَذَ الْأَرْشَ، وَإِنْ شَاءَ اقْتَصَّ مَا بَيْنَ قَرْنَيْ الشَّاجِّ لَا يَزِيدُ عَلَى ذَلِكَ شَيْئًا لِأَنَّهُ لَا سَبِيلَ إلَى اسْتِيفَاءِ الزِّيَادَةِ عَلَى مَا بَيْنَ قَرْنَيْ الشَّاجِّ؛ لِأَنَّهُ مَا زَادَ عَلَى مَا بَيْنَ قَرْنَيْ الْمَشْجُوجِ فَلَا يُزَادُ عَلَى مَا بَيْنَ قَرْنَيْهِ فَيُخَيَّرُ الْمَشْجُوجُ لِأَنَّهُ وَجَدَ حَقَّهُ نَاقِصًا إذْ الثَّانِيَةُ دُونَ الْأُولَى فِي قَدْرِ الْجِرَاحَةِ فَإِنْ شَاءَ رَضِيَ بِاسْتِيفَاءِ حَقِّهِ نَاقِصًا، وَاقْتَصَرَ عَلَى مَا بَيْنَ قَرْنَيْ الشَّاجِّ طَلَبًا لِلتَّشَفِّي.
وَإِنْ شَاءَ عَدَلَ إلَى الْأَرْشِ، وَإِنْ كَانَتْ الشَّجَّةُ لَا تَأْخُذُ بَيْنَ قَرْنَيْ الْمَشْجُوجِ، وَهِيَ تَأْخُذُ مَا بَيْنَ قَرْنَيْ الشَّاجِّ لَا يَجُوزُ أَنْ يُسْتَوْعَبَ بَيْنَ قَرْنَيْ الشَّاجِّ كُلِّهِ بِالْقِصَاصِ؛ لِأَنَّ الشَّجَّةَ الْأُولَى وَقَعَتْ غَيْرَ مُسْتَوْعَبَةٍ فَالِاسْتِيعَابُ فِي الْجُزْءِ يَكُونُ زِيَادَةً، وَهَذَا لَا يَجُوزُ وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ مِقْدَارَ شَجَّتِهِ فِي الْمِسَاحَةِ كَمَا لَا يَجُوزُ اسْتِيفَاءُ مَا فَضَلَ عَنْ قَرْنَيْ الشَّاجِّ فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ مِقْدَارَ الشَّجَّةِ الْأُولَى فِي الْمِسَاحَةِ وَلَهُ الْخِيَارُ لِتَعَذُّرِ اسْتِيفَاءِ مِثْلِ شَجَّتِهِ فِي مِقْدَارِهَا فِي الْمِسَاحَةِ فِي الطُّولِ فَإِنْ شَاءَ اقْتَصَّ وَنَقَصَ عَمَّا بَيْنَ قَرْنَيْ الشَّاجِّ، وَإِنْ شَاءَ تَرَكَ وَأَخَذَ الْأَرْشَ.
وَإِنْ كَانَتْ الشَّجَّةُ فِي طُولِ رَأْسِ الْمَشْجُوجِ، وَهِيَ تَأْخُذُ مِنْ جَبْهَتِهِ إلَى قَفَاهُ وَلَا تَبْلُغُ مِنْ الشَّاجِّ إلَى قَفَاهُ يُخَيَّرُ الْمَشْجُوجُ إنْ شَاءَ اقْتَصَّ مِقْدَارَ شَجَّتِهِ إلَى مِثْلِ مَوْضِعِهَا مِنْ رَأْسِ الشَّاجِّ لَا يَزِيدُ عَلَيْهِ، وَإِنْ شَاءَ أَخَذَ الْأَرْشَ لِمَا بَيَّنَّا فِيمَا تَقَدَّمَ.
وَحَكَى الطَّحَاوِيُّ عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْعَبَّاسِ الرَّازِيّ أَنَّهُ قَالَ إذَا اسْتَوْعَبَتْ الشَّجَّةُ مَا بَيْنَ قَرْنَيْ الْمَشْجُوجِ، وَلَمْ تَسْتَوْعِبْ مَا بَيْنَ قَرْنَيْ الشَّاجِّ يُقْتَصُّ مِنْ الشَّاجِّ مَا بَيْنَ قَرْنَيْهِ كُلِّهِ، وَإِنْ زَادَ ذَلِكَ عَلَى طُولِ الشَّجَّةِ الْأُولَى لِأَنَّهُ لَا عِبْرَةَ لِلصِّغَرِ وَالْكِبَرِ فِي الْقِصَاصِ بَيْنَ الْعُضْوَيْنِ كَمَا فِي الْيَدَيْنِ وَالرِّجْلَيْنِ أَنَّهُ يَجْرِي الْقِصَاصُ بَيْنَهُمَا، وَإِنْ كَانَتْ إحْدَاهُمَا أَكْبَرَ مِنْ الْأُخْرَى فَكَذَا فِي الشَّجَّةِ، وَهَذَا الِاعْتِبَارُ غَيْرُ سَدِيدٍ؛ لِأَنَّ وُجُوبَ الْقَطْعِ هُنَاكَ لِفَوَاتِ الْمَنْفَعَةِ وَأَنَّهَا لَا تَخْتَلِفُ بِالصِّغَرِ وَالْكِبَرِ.
أَلَا يَرَى أَنَّ الْيَدَ الصَّغِيرَةَ قَدْ تَكُونُ أَكْثَرَ مَنْفَعَةً مِنْ الْكَبِيرَةِ فَإِذَا لَمْ يَخْتَلِفْ مَا وَجَبَ لَهُ لَمْ يَخْتَلِفْ الْوُجُوبُ بِخِلَافِ الشَّجَّةِ لِأَنَّ وُجُوبَ الْقِصَاصِ فِيهَا لِلشَّيْنِ الَّذِي يَلْحَقُ الْمَشْجُوجَ وَأَنَّهُ يَخْتَلِفُ فَيَزْدَادُ بِزِيَادَةِ الشَّجَّةِ وَيُنْتَقَصُ بِنُقْصَانِهَا لِذَلِكَ افْتَرَقَ الْأَمْرَانِ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.
(وَأَمَّا) الْجِرَاحُ فَإِنْ مَاتَ مِنْ شَيْءٍ مِنْهَا الْمَجْرُوحُ وَجَبَ الْقِصَاصُ؛ لِأَنَّ الْجِرَاحَةَ صَارَتْ بِالسِّرَايَةِ نَفْسًا، وَإِنْ لَمْ يَمُتْ فَلَا قِصَاصَ فِي شَيْءٍ مِنْهَا، سَوَاءٌ كَانَتْ جَائِفَةً أَوْ غَيْرَهَا لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ اسْتِيفَاءُ الْقِصَاصِ فِيهَا عَلَى وَجْهِ الْمُمَاثَلَةِ.
وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ الْجَانِي، وَالْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ حُرَّيْنِ فَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا حُرًّا وَالْآخَرُ عَبْدًا أَوْ كَانَا عَبْدَيْنِ فَلَا قِصَاصَ فِيهِ.
وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَا ذَكَرَيْنِ أَوْ أُنْثَيَيْنِ عِنْدَنَا فَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا ذَكَرًا وَالْآخَرُ أُنْثَى فَلَا قِصَاصَ فِيهِ عِنْدَ أَصْحَابِنَا.
وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ- رَحِمَهُ اللَّهُ- هَذَا لَيْسَ بِشَرْطٍ، وَيَجْرِي الْقِصَاصُ بَيْنَ الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى فِيمَا دُونَ النَّفْسِ كَمَا يُجْرَى فِي النَّفْسِ، وَهَذَانِ الشَّرْطَانِ فِي الْحَقِيقَةِ عِنْدَنَا مُتَدَاخِلَانِ لِأَنَّهُمَا دَخَلَا فِي شَرْطِ الْمُمَاثَلَةِ؛ لِأَنَّ الْمُمَاثَلَةَ فِي الْأُرُوشِ شَرْطُ وُجُوبِ الْقِصَاصِ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ بِدَلِيلِ أَنَّ الصَّحِيحَ لَا يُقْطَعُ بِالْأَشَلِّ، وَلَا كَامِلَ الْأَصَابِعِ بِنَاقِصِ الْأَصَابِعِ، وَلِمَا ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ أَنَّ مَا دُونَ النَّفْسِ يُسْلَكُ بِهِ مَسْلَكُ الْأَمْوَالِ وَالْمُمَاثَلَةُ فِي الْأَمْوَالِ فِي بَابِ الْأَمْوَالِ مُعْتَبَرَةٌ، وَلَمْ تُوجَدْ الْمُمَاثَلَةُ بَيْنَ الْأَحْرَارِ وَالْعَبِيدِ فِي الْأُرُوشِ؛ لِأَنَّ أَرْشَ طَرَفِ الْعَبْدِ لَيْسَ بِمُقَدَّرٍ بَلْ يَجِبُ بِاعْتِبَارِ قِيمَتِهِ، وَأَرْشُ طَرَفِ الْحُرِّ مُقَدَّرٌ فَلَا يُوجَدُ التَّسَاوِي بَيْنَ أَرْشَيْهِمَا، وَلَئِنْ اتَّفَقَ اسْتِوَاؤُهُمَا فِي الْقَدْرِ فَلَا يُعْتَبَرُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ قِيمَةَ طَرَفِ الْعَبْدِ تُعْرَفُ بِالْحَزْرِ وَالظَّنِّ بِتَقْوِيمِ الْمُقَوِّمِينَ فَلَا تُعْرَفُ الْمُسَاوَاةُ فَلَا يَجِبُ الْقِصَاصُ.
وَكَذَا لَمْ يُوجَدْ بَيْنَ الْعَبِيدِ وَالْعَبِيدِ لِأَنَّهُمْ إنْ اخْتَلَفَتْ قِيمَتُهُمْ فَلَمْ يُوجَدْ التَّسَاوِي فِي الْأَرْشِ، وَإِنْ اسْتَوَتْ قِيمَتُهُمْ فَلَا يُعْرَفُ ذَلِكَ إلَّا بِالْحَزْرِ وَالظَّنِّ لِأَنَّهُ يُعْرَفُ بِتَقْوِيمِ الْمُقَوِّمِينَ، وَذَلِكَ يَخْتَلِفُ فَلَا يُعْرَفُ التَّسَاوِي فِي أُرُوشِهِمْ فَلَا يَجِبُ الْقِصَاصُ أَوَتَبْقَى فِيهِ شُبْهَةُ الْعَدَمِ، وَالشُّبْهَةُ فِي بَابِ الْقِصَاصِ مُلْحَقَةٌ بِالْحَقِيقَةِ.
وَلَا بَيْنَ الذُّكُورِ وَالْإِنَاثِ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ؛ لِأَنَّ أَرْشَ الْأُنْثَى نِصْفُ أَرْشِ الذَّكَرِ.
وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ- رَحِمَهُ اللَّهُ- الْمُسَاوَاةُ فِي الْأُرُوشِ فِي الْأَحْرَارِ غَيْرُ مُعْتَبِرَةٍ (وَجْهُ) قَوْلِهِ أَنَّ الْقِصَاصَ جَرَى بَيْنَ نَفْسَيْهِمَا فَيَجْرِي بَيْنَ طَرَفَيْهِمَا؛ لِأَنَّ الطَّرَفَ تَابِعٌ لِلنَّفْسِ.
(وَلَنَا) أَنَّهُ لَا مُسَاوَاةَ بَيْنَ أَرْشَيْهِمَا فَلَا قِصَاصَ فِي طَرَفَيْهِمَا كَالصَّحِيحِ مَعَ الْأَشَلِّ.
وَلَا قِصَاصَ فِي الْأَظْفَارِ لِانْعِدَامِ الْمُسَاوَاةِ فِي أُرُوشِهَا لِأَنَّ أَرْشَ الظُّفْرِ الْحُكُومَةُ، وَأَنَّهَا مُعْتَبَرَةٌ بِالْحَزْرِ وَالظَّنِّ، وَاَللَّهُ تَعَالَى الْمُوَفِّقُ.
وَأَمَّا كَوْنُ الْجِنَايَةِ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ بِالسِّلَاحِ فَلَيْسَ بِشَرْطٍ لِوُجُوبِ الْقِصَاصِ فِيهِ فَسَوَاءٌ كَانَتْ بِسِلَاحٍ أَوْ غَيْرِهِ يَجِبُ فِيهِ الْقِصَاصُ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ شُبْهَةُ عَمْدٍ، وَإِنَّمَا فِيهِ عَمْدٌ أَوْ خَطَأٌ لِمَا ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ فَاسْتَوَى فِيهِمَا السِّلَاحُ وَغَيْرُهُ هَذَا الَّذِي ذَكَرْنَا شَرَائِطُ وُجُوبِ الْقِصَاصِ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ.
(وَأَمَّا) بَيَانُ وَقْتِ الْحُكْمِ بِالْقِصَاصِ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ فَوَقْتُهُ مَا بَعْدَ الْبُرْءِ فَلَا يَحْكُمُ بِالْقِصَاصِ فِيهِ مَا لَمْ يَبْرَأْ، وَهَذَا عِنْدَنَا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ وَقْتُهُ مَا بَعْدَ الْجِنَايَةِ وَلَا يُنْتَظَرُ (وَجْهُ) قَوْلِهِ أَنَّهُ وَجَبَ الْقِصَاصُ لِلْحَالِ فَلَهُ أَنْ يَسْتَوْفِيَ الْوَاجِبَ لِلْحَالِ.
(وَلَنَا) مَا رُوِيَ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَالَ: «لَا يُسْتَقَادُ مِنْ الْجِرَاحَةِ حَتَّى يَبْرَأَ».
وَرُوِيَ أَنَّ «رَجُلًا جَرَحَ حَسَّانَ بْنَ ثَابِتٍ- رَحِمَهُ اللَّهُ- فِي فَخِذِهِ بِعَظْمٍ فَجَاءَ الْأَنْصَارُ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَطَلَبُوا الْقِصَاصَ فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ انْتَظِرُوا مَا يَكُونُ مِنْ صَاحِبِكُمْ فَأَنَا وَاَللَّهِ مُنْتَظِرُهُ»، وَهُوَ أَنَّهُ يَحْتَمِلُ السِّرَايَةَ، وَالْجِرَاحَةُ عِنْدَ السِّرَايَةِ تَصِيرُ قَتْلًا فَيُتَبَيَّنُ أَنَّهُ اسْتَوْفَى غَيْرَ حَقِّهِ، وَهَذَا فَرْعُ مَسْأَلَةٍ ذَكَرْنَاهَا، وَهِيَ أَنَّ الْمَجْرُوحَ إذَا مَاتَ بِالْجِرَاحَةِ يَجِبُ الْقِصَاصُ بِالنَّفْسِ عِنْدَنَا لَا فِي الطَّرَفِ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ- رَحِمَهُ اللَّهُ- يُفْعَلُ بِهِ مِثْلُ مَا فَعَلَ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.
وَأَمَّا الَّذِي فِيهِ دِيَةٌ كَامِلَةٌ فَالْكَلَامُ فِيهِ فِي مَوْضِعَيْنِ: أَحَدُهُمَا فِي بَيَانِ سَبَبِ الْوُجُوبِ وَالثَّانِي فِي بَيَانِ شَرَائِطِهِ.
أَمَّا السَّبَبُ فَهُوَ تَفْوِيتُ الْمَنْفَعَةِ الْمَقْصُودَةِ مِنْ الْعُضْوِ عَلَى الْكَمَالِ، وَذَلِكَ فِي الْأَصْلِ بِأَحَدِ أَمْرَيْنِ: إبَانَةُ الْعُضْوِ وَإِذْهَابُ مَعْنَى الْعُضْوِ مَعَ بَقَاءِ الْعُضْوِ صُورَةً.
أَمَّا الْأَوَّلُ فَالْأَعْضَاءُ الَّتِي تَتَعَلَّقُ بِانْتِهَاءِ كَمَالِ الدِّيَةِ أَنْوَاعٌ ثَلَاثَةِ: نَوْعٌ لَا نَظِيرَ لَهُ فِي الْبَدَنِ، وَنَوْعٌ فِي الْبَدَنِ مِنْهُ اثْنَانِ، وَنَوْعٌ فِي الْبَدَنِ مِنْهُ أَرْبَعَةٌ.
(أَمَّا) الَّذِي لَا نَظِيرَ لَهُ فِي الْبَدَنِ فَسِتَّةُ أَعْضَاءٍ أَحَدُهَا الْأَنْفُ سَوَاءٌ اسْتَوْعَبَ جَدْعًا أَوْ قُطِعَ الْمَارِنُ مِنْهُ وَحْدَهُ، وَهُوَ مَا لَانَ مِنْ الْأَنْفِ، وَالثَّانِي اللِّسَانُ سَوَاءٌ اسْتَوْعَبَ قَطْعًا أَوْ قُطِعَ مِنْهُ مَا يَذْهَبُ بِالْكَلَامِ كُلِّهِ، وَالثَّالِثُ الذَّكَرُ سَوَاءٌ اسْتَوْعَبَ قَطْعًا أَوْ قُطِعَ الْحَشَفَةُ مِنْهُ وَحْدَهَا، وَالْأَصْلُ فِيهِ مَا رُوِيَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ أَنَّ رَسُولَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «فِي النَّفْسِ الدِّيَةُ وَفِي اللِّسَانِ الدِّيَةُ وَفِي الذَّكَرِ الدِّيَةُ وَفِي الْأَنْفِ الدِّيَةُ وَفِي الْمَارِنِ الدِّيَةُ» وَرُوِيَ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَتَبَ فِي كِتَابِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ «فِي النَّفْسِ الدِّيَةُ وَفِي الْأَنْفِ الدِّيَةُ وَفِي اللِّسَانِ الدِّيَةُ» وَلِأَنَّهُ أَبْطَلَ الْمَنَافِعَ الْمَقْصُودَةَ مِنْ هَذِهِ الْأَعْضَاءِ، وَالْجَمَالَ أَيْضًا مِنْ بَعْضِهَا فَالْمَقْصُودُ مِنْ الْأَنْفِ الشَّمُّ وَالْجَمَالُ أَيْضًا، وَمِنْ اللِّسَانِ الْكَلَامُ، وَمِنْ الذَّكَرِ الْجِمَاعُ، وَالْحَشَفَةُ يَتَعَلَّقُ بِهَا مَنْفَعَةُ الْإِنْزَالِ، وَقَدْ زَالَ ذَلِكَ كُلَّهُ بِالْقَطْعِ.
وَإِنْ كَانَ ذَهَبَ بَعْضُ الْكَلَامِ بِقَطْعِ بَعْضِ اللِّسَانِ دُونَ بَعْضٍ فَفِيهِ حُكُومَةُ الْعَدْلِ لِأَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ تَفْوِيتُ الْمَنْفَعَةِ عَلَى سَبِيلِ الْكَمَالِ، وَقِيلَ تُقَسَّمُ الدِّيَةُ عَلَى عَدَدِ حُرُوفِ الْهِجَاءِ فَيَجِبُ مِنْ الدِّيَةِ بِقَدْرِ مَا فَاتَ مِنْ الْحُرُوفِ.
وَنُقِلَتْ هَذِهِ الْقَضِيَّةُ عَنْ سَيِّدِنَا عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ اللِّسَانِ هُوَ الْكَلَامُ، وَقَدْ فَاتَ بَعْضُهُ دُونَ بَعْضٍ فَيَجِبُ مِنْ الدِّيَةِ بِقَدْرِ الْفَائِتِ مِنْهَا لَكِنْ إنَّمَا يَدْخُلُ فِي الْقِسْمَةِ الْحُرُوفُ الَّتِي تَفْتَقِرُ إلَى اللِّسَانِ فَأَمَّا مَا لَا يَفْتَقِرُ إلَى اللِّسَانِ مِنْ الشَّفَوِيَّةِ وَالْحَلْقِيَّةِ كَالْبَاءِ وَالْفَاءِ وَالْهَاءِ وَنَحْوِهِمَا فَلَا تَدْخُلُ فِي الْقِسْمَةِ.
وَالرَّابِعُ الصُّلْبُ إذَا احْدَوْدَبَ بِالضَّرْبِ وَانْقَطَعَ الْمَاءُ، وَهُوَ الْمَنِيُّ، فِيهِ دِيَةٌ كَامِلَةٌ لِوُجُودِ تَفْوِيتِ مَنْفَعَةِ الْجِنْسِ.
وَالْخَامِسُ مَسْلَكُ الْبَوْلِ.
وَالسَّادِسُ مَسْلَكُ الْغَائِطِ مِنْ الْمَرْأَةِ إذَا أَفْضَاهَا إنْسَانٌ فَصَارَتْ لَا تَسْتَمْسِكُ الْبَوْلَ أَوْ الْغَائِطَ فَعَلَيْهِ دِيَةٌ كَامِلَةٌ فَإِنْ صَارَتْ لَا تَسْتَمْسِكهُمَا فَعَلَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا دِيَةٌ كَامِلَةٌ لِأَنَّهُ فَوَّتَ مَنْفَعَةً مَقْصُودَةً بِالْعُضْوِ عَلَى الْكَمَالِ فَيَجِبُ عَلَيْهِ كَمَالُ الدِّيَةِ.
(وَأَمَّا) الْأَعْضَاءُ الَّتِي فِي الْبَدَنِ مِنْهَا اثْنَانِ فَالْعَيْنَانِ، وَالْأُذُنَانِ، وَالشَّفَتَانِ، وَالْحَاجِبَانِ إذَا ذَهَبَ شَعْرُهُمَا وَلَمْ يَنْبُتْ، وَالثَّدْيَانِ وَالْحَلَمَتَانِ وَالْأُنْثَيَانِ، وَالْأَصْلُ فِيهِ مَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ الْمُسَيِّبِ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَالَ: «وَفِي الْأُذُنَيْنِ الدِّيَةُ، وَفِي الْعَيْنَيْنِ الدِّيَةُ، وَفِي الرِّجْلَيْنِ الدِّيَةُ» وَلِأَنَّ فِي الْقَطْعِ كُلَّ اثْنَيْنِ مِنْ هَذَيْنِ الْعُضْوَيْنِ تَفْوِيتُ مَنْفَعَةِ الْجِنْسِ مَنْفَعَةً مَقْصُودَةً أَوَتَفْوِيتُ الْجَمَالِ عَلَى الْكَمَالِ كَمَنْفَعَةِ الْبَصَرِ فِي الْعَيْنَيْنِ وَالْبَطْشِ فِي الْيَدَيْنِ وَالْمَشْيِ فِي الرِّجْلَيْنِ وَالْجَمَالِ فِي الْأُذُنَيْنِ وَالْحَاجِبَيْنِ إذَا لَمْ يَنْبُتَا وَالشَّفَتَيْنِ وَمَنْفَعَةِ إمْسَاكِ الرِّيقِ فِي إحْدَاهُمَا وَهِيَ السُّفْلَى.
وَالثَّدْيَانِ وِكَاءٌ لِلَّبَنِ، وَفِي الْحَلَمَتَيْنِ مَنْفَعَةُ الرَّضَاعِ، وَالْأُنْثَيَانِ وِكَاءُ الْمَنِيِّ.
(وَأَمَّا) الْأَعْضَاءُ الَّتِي مِنْهَا أَرْبَعَةٌ فِي الْبَدَنِ فَنَوْعَانِ: أَحَدُهُمَا أَشْفَارُ الْعَيْنَيْنِ، وَهِيَ مَنَابِتُ الْأَهْدَابِ إذَا لَمْ تَنْبُتْ لِمَا فِي تَفْوِيتِهَا مِنْ تَفْوِيتِ مَنْفَعَةِ الْبَصَرِ وَالْجَمَالِ أَيْضًا عَلَى الْكَمَالِ، وَفِي كُلِّ شَفْرٍ مِنْهَا رُبْعُ الدِّيَةِ.
وَالثَّانِي الْأَهْدَابُ، وَهِيَ شَعْرُ الْأَشْفَارِ إذَا لَمْ تَنْبُتْ لِمَا قُلْنَا.
(وَأَمَّا) إذْهَابُ مَعْنَى الْعُضْوِ مَعَ بَقَاءِ صُورَتِهِ فَنَحْوُ الْعَقْلِ وَالْبَصَرِ وَالشَّمِّ وَالذَّوْقِ وَالْجِمَاعِ وَالْإِيلَادِ بِأَنْ ضُرِبَ عَلَى رَأْسِ إنْسَانٍ فَذَهَبَ عَقْلُهُ أَوْ سَمْعُهُ أَوْ كَلَامُهُ أَوْ شَمُّهُ أَوْ ذَوْقُهُ أَوْ جِمَاعُهُ أَوْ إيلَادُهُ بِأَنْ ضُرِبَ عَلَى ظَهْرِهِ فَذَهَبَ مَاءُ صُلْبِهِ، وَالْأَصْلُ فِيهِ مَا رُوِيَ عَنْ سَيِّدِنَا عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَضَى فِي رَجُلٍ وَاحِدٍ بِأَرْبَعِ دِيَاتٍ، ضُرِبَ عَلَى رَأْسِهِ فَذَهَبَ عَقْلُهُ وَكَلَامُهُ وَبَصَرُهُ وَذَكَرُهُ لِأَنَّهُ فَوَّتَ الْمَنَافِعَ الْمَقْصُودَةَ عَنْ هَذِهِ الْأَعْضَاءِ عَلَى سَبِيلِ الْكَمَالِ.
(أَمَّا) الْعَقْلُ فَلِأَنَّ تَفْوِيتَهُ تَفْوِيتُ مَنَافِعِ الْأَعْضَاءِ كُلِّهَا لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ الِانْتِفَاعُ بِهَا فِيمَا وُضِعَتْ لَهُ بِفَوْتِ الْعَقْلِ.
أَلَا تَرَى أَنَّ أَفْعَالَ الْمَجَانِينِ تَخْرُجُ مَخْرَجَ أَفْعَالِ الْبَهَائِمِ فَكَانَ إذْهَابُهُ إبْطَالًا لِلنَّفْسِ مَعْنًى.
(وَأَمَّا) السَّمْعُ وَالْبَصَرُ وَالْكَلَامُ وَالشَّمُّ وَالذَّوْقُ وَالْجِمَاعُ وَالْإِيلَادُ فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَنْفَعَةٌ مَقْصُودَةٌ، وَقَدْ فَوَّتَهَا كُلَّهَا.
وَلَوْ ضُرِبَ عَلَى رَأْسِ رَجُلٍ فَسَقَطَ شَعْرُهُ أَوْ عَلَى رَأْسِ امْرَأَةٍ فَسَقَطَ شَعْرُهَا أَوْ حَلَقَ لَحَيَّةَ رَجُلٍ أَوْ نَتَفَهَا أَوْ حَلَقَ شَعْرَ امْرَأَةٍ وَلَمْ يَنْبُتْ فَإِنْ كَانَ حُرًّا فَفِيهِ الدِّيَةُ عِنْدَ أَصْحَابِنَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ فِيهِ حُكُومَةٌ (وَجْهُ) قَوْلِهِ أَنَّهُ لَا يَجِبُ كَمَالُ الدِّيَةِ إلَّا بِإِتْلَافِ النَّفْسِ؛ لِأَنَّ الدِّيَةَ بَدَلُ النَّفْسِ إلَّا أَنَّ الشَّرْعَ وَرَدَ بِذَلِكَ عِنْدَ تَفْوِيتِ مَنْفَعَةِ الْجِنْسِ كَمَا فِي قَطْعِ الْيَدَيْنِ وَالرِّجْلَيْنِ وَنَحْوِ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ تَفْوِيتَ مَنْفَعَةِ الْجِنْسِ يَجْعَلُ النَّفْسَ تَالِفَةً مِنْ وَجْهٍ، وَلَمْ يُوجَدْ ذَلِكَ فِي حَلْقِ الشَّعْرِ فَبَقِيَ الْحُكْمُ فِيهِ مَرْدُودًا إلَى الْأَصْلِ، وَلِهَذَا لَمْ يَجِبْ فِي حَلْقِ شَعْرِ سَائِرِ الْبَدَنِ.
(وَلَنَا) أَنَّ الشَّعْرَ لِلنِّسَاءِ وَالرِّجَالِ جَمَالٌ كَامِلٌ.
وَكَذَا اللِّحْيَةُ لِلرِّجَالِ.
وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ مَا رُوِيَ مِنْ الْحَدِيثِ «أَنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى عَزَّ وَجَلَّ خَلَقَ فِي سَمَاءِ الدُّنْيَا مَلَائِكَةً مِنْ تَسْبِيحِهِمْ سُبْحَانَ الَّذِي زَيَّنَ الرِّجَالَ بِاللِّحَى وَالنِّسَاءَ بِالذَّوَائِبِ» وَتَفْوِيتُ الْجَمَالِ عَلَى الْكَمَالِ فِي حَقِّ الْحُرِّ يُوجِبُ كَمَالَ الدِّيَةِ كَالْمَارِنِ وَالْأُذُنِ الشَّاخِصَةِ، وَالْجَامِعُ بَيْنَهُمَا إظْهَارُ شَرَفِ الْآدَمِيِّ وَكَرَامَتِهِ، وَشَرَفُهُ فِي الْجَمَالِ فَوْقَ شَرَفِهِ فِي الْمَنَافِعِ ثُمَّ تَفْوِيتُ الْمَنَافِعِ عَلَى الْكَمَالِ لَمَّا أَوْجَبَ كَمَالَ الدِّيَةِ فَتَفْوِيتُ الْجَمَالِ عَلَى الْكَمَالِ أَوْلَى بِخِلَافِ شَعْرِ سَائِرِ الْبَدَنِ لِأَنَّهُ لَا جَمَالَ فِيهِ عَلَى الْكَمَالِ لِأَنَّهُ لَا يَظْهَرُ لِلنَّاسِ فَتَفْوِيتُهُ لَا يُوجِبُ كَمَالَ الدِّيَةِ.
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ سَيِّدِنَا عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ فِي الرَّأْسِ إذَا حُلِقَ فَلَمْ يَنْبُتْ الدِّيَةُ كَامِلَةً.
وَكَذَا رُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ فِي اللِّحْيَةِ إذَا حُلِقَتْ فَلَمْ تَنْبُتْ الدِّيَةُ وَرُوِيَ أَنَّ رَجُلًا أَغْلَى مَاءً فَصَبَّهُ عَلَى رَأْسِ رَجُلٍ فَانْسَلَخَ جِلْدُ رَأْسِهِ فَقَضَى سَيِّدُنَا عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِالدِّيَةِ.
وَعَنْ الْفَقِيهِ أَبِي جَعْفَرٍ الْهِنْدُوَانِيُّ أَنَّهُ قَالَ إنَّمَا يَجِبُ كَمَالُ الدِّيَةِ فِي اللِّحْيَةِ إذَا كَانَتْ كَامِلَةً بِحَيْثُ يُتَجَمَّلُ بِهَا فَأَمَّا إذَا كَانَتْ طَاقَاتٍ مُتَفَرِّقَةً لَا يُتَجَمَّلُ بِهَا فَلَا شَيْءَ فِيهَا، وَإِنْ كَانَتْ غَيْرَ مُتَوَفِّرَةٍ بِحَيْثُ يَقَعُ بِهَا الْجَمَالُ الْكَامِلُ، وَلَيْسَتْ مِمَّا يَشِينُ فَفِيهَا حُكُومَةُ عَدْلٍ.
وَأَمَّا شَعْرُ الْعَبْدِ وَلِحْيَتُهُ فَذَكَرَ فِي الْأَصْلِ أَنَّ فِيهِ حُكُومَةً.
وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ فِيهِ الْقِيمَةَ (وَجْهُ) هَذِهِ الرِّوَايَةِ أَنَّ الْقِيمَةَ فِي الْعَبِيدِ كَالدِّيَةِ فِي الْأَحْرَارِ فَلَمَّا وَجَبَتْ فِي الْحُرِّ الدِّيَةُ تَجِبُ فِي الْعَبْدِ الْقِيمَةُ (وَجْهُ) رِوَايَةِ الْأَصْلِ أَنَّ الْجَمَالَ فِي الْعَبْدِ لَيْسَ بِمَقْصُودٍ بَلْ الْمَقْصُودُ مِنْهُمْ الْخِدْمَةُ، وَتَفْوِيتُ مَا لَيْسَ بِمَقْصُودٍ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ كَمَالُ الدِّيَةِ.
وَلَوْ حَلَقَ رَأْسَ إنْسَانٍ أَوْ لِحْيَتَهُ ثُمَّ نَبَتَ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ النَّابِتَ قَامَ مَقَامَ الْفَائِتِ فَكَأَنَّهُ لَمْ يَفُتْ الْجَمَالُ أَصْلًا.
وَفِي الصَّعَرِ- وَهُوَ اعْوِجَاجُ الرَّقَبَةِ- كَمَالُ الدِّيَةِ لِوُجُودِ تَفْوِيتِ مَنْفَعَةٍ مَقْصُودَةٍ وَتَفْوِيتِ الْجَمَالِ عَلَى الْكَمَالِ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ.
(وَأَمَّا) شَرَائِطُ الْوُجُوبِ.
(فَمِنْهَا) أَنْ تَكُونَ الْجِنَايَةُ خَطَأً فِيمَا فِي عَمْدِهِ الْقِصَاصُ وَأَمَّا مَا لَا قِصَاصَ فِي عَمْدِهِ فَيَسْتَوِي فِيهِ الْعَمْد، وَالْخَطَأُ، وَقَدْ بَيَّنَّا مَا فِي عَمْدِهِ الْقِصَاصُ وَمَا لَا قِصَاصَ فِيهِ فِيمَا تَقَدَّمَ.
(وَمِنْهَا) أَنْ يَكُونَ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ ذَكَرًا فَإِنْ كَانَ أُنْثَى فَعَلَيْهِ دِيَةُ أُنْثَى، وَهُوَ نِصْفُ دِيَةِ الذَّكَرِ سَوَاءٌ كَانَ الْجَانِي ذَكَرًا أَوْ أُنْثَى لِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ عَلَى ذَلِكَ، وَهُوَ تَنْصِيفُ دِيَةِ الْأُنْثَى مِنْ دِيَةِ الذَّكَرِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا فِي دِيَةِ النَّفْسِ.
(وَمِنْهَا) أَنْ يَكُونَ الْجَانِي وَالْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ حُرَّيْنِ فَإِنْ كَانَ الْجَانِي حُرًّا وَالْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ عَبْدًا فَلَا دِيَةَ فِيهِ، وَفِيهِ الْقِيمَةُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ثُمَّ إنْ كَانَ قَلِيلَ الْقِيمَةِ وَجَبَتْ جَمِيعُ الْقِيمَةِ، وَإِنْ كَانَ كَثِيرَ الْقِيمَةِ بِأَنْ بَلَغَتْ الدِّيَةُ يُنْقَصُ مِنْ قِيمَتِهِ عَشَرَةٌ كَذَا رَوَى أَبُو يُوسُفَ- رَحِمَهُ اللَّهُ- تَعَالَى عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: كُلُّ شَيْءٍ مِنْ الْحُرِّ فِيهِ الدِّيَةُ فَهُوَ مِنْ الْعَبْدِ فِيهِ الْقِيمَةُ، وَكُلُّ شَيْءٍ مِنْ الْحُرِّ فِيهِ نِصْفُ الدِّيَةِ فَهُوَ مِنْ الْعَبْدِ فِيهِ نِصْفُ الْقِيمَةِ.
وَكَذَلِكَ الْجِرَاحَاتُ.
وَعُمُومُ هَذِهِ الرِّوَايَةِ يَقْتَضِي أَنَّ كُلَّ شَيْءٍ مِنْ الْحُرِّ فِيهِ قَدْرٌ مِنْ الدِّيَةِ فَمِنْ الْعَبْدِ فِيهِ ذَلِكَ الْقَدْرُ مِنْ قِيمَتِهِ مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنَ مَا يُقْصَدُ بِهِ الْمَنْفَعَةُ كَالْعَيْنِ وَالْيَدِ وَالرِّجْلِ وَبَيْنَ مَا يُقْصَدُ بِهِ الْجَمَالُ وَالزِّينَةُ مِثْلُ الْحَاجِبِ وَالشَّعْرِ وَالْأُذُنِ، وَهَكَذَا رَوَى الْحَسَنُ- رَحِمَهُ اللَّهُ- عَنْهُ أَنَّهُ إنْ حَلَقَ أَحَدَ حَاجِبَيْهِ فَلَمْ يَنْبُتْ أَوْ نَتَفَ أَشْفَارَ عَيْنَيْهِ الْأَسْفَلِ أَوْ الْأَعْلَى يَعِنِي أَهْدَابَهُ فَلَمْ تَنْبُتْ أَوْ قَطَعَ إحْدَى شَفَتَيْهِ الْعُلْيَا أَوْ السُّفْلَى أَنَّ عَلَيْهِ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ ذَلِكَ نِصْفَ الْقِيمَةِ.
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ رَجَعَ أَبُو حَنِيفَةَ فِي حَاجِبِ الْعَبْدِ وَفِي أُذُنَيْهِ وَقَالَ فِيهِ حُكُومَةُ الْعَدْلِ.
وَكَذَا قَالَ مُحَمَّدٌ اسْتَقْبَحَ أَبُو حَنِيفَةَ- رَحِمَهُ اللَّهُ- أَنْ يَضْمَنَ فِي أُذُنِ الْعَبْدِ نِصْفَ الْقِيمَةِ، وَهَذَا دَلِيلُ الرُّجُوعِ أَيْضًا، وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْوَاجِبَ فِيمَا يُقْصَدُ بِهِ الْمَنْفَعَةُ هُوَ الْقِيمَةُ رِوَايَةً وَاحِدَةً عَنْهُ، وَفِيمَا يُقْصَدُ بِهِ الزِّينَةُ وَالْجَمَالُ عَنْهُ رِوَايَتَانِ.
وَقَالَ مُحَمَّدٌ: الْوَاجِبُ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ النُّقْصَانُ يُقَوَّمُ الْعَبْدُ مَجْنِيًّا عَلَيْهِ وَيُقَوَّمُ وَلَيْسَ بِهِ الْجِنَايَةُ فَيَغْرَمُ الْجَانِي مَا بَيْنَ الْقِيمَتَيْنِ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ الْآخَرُ، وَقَوْلُهُ الْأَوَّلُ مَعَ أَبِي حَنِيفَةَ (وَجْهُ) قَوْلِ مُحَمَّدٍ أَنَّ مَا دُونَ النَّفْسِ مِنْ الْعَبْدِ لَهُ حُكْمُ الْمَالِ لِأَنَّهُ خُلِقَ لِمَصْلَحَةِ النَّفْسِ كَالْمَالِ وَبِدَلِيلِ أَنَّهُ لَا يَجِبُ فِيهِ الْقِصَاصُ وَلَا تَتَحَمَّلُهُ الْعَاقِلَةُ فَكَانَ ضَمَانُهُ ضَمَانَ الْأَمْوَالِ، وَضَمَانُ الْأَمْوَالِ غَيْرُ مُقَدَّرٍ بَلْ يَجِبُ بِقَدْرِ نُقْصَانِ الْمَالِ كَمَا فِي سَائِرِ الْأَمْوَالِ (وَجْهُ) رِوَايَةِ الْجَمْعِ لِأَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ الْقِيمَةَ فِي الْعَبْدِ كَالدِّيَةِ فِي الْحُرِّ فَلَمَّا جَازَ تَقْدِيرُ ضَمَانِ جِنَايَةِ الْحُرِّ بِدِيَتِهِ جَازَ تَقْدِيرُ ضَمَانِ جِنَايَةِ الْعَبْدِ بِقِيمَتِهِ وَلِأَنَّ التَّقْدِيرَ قَدْ دَخَلَ عَلَى الْجِنَايَةِ عَلَيْهِ فِي النَّفْسِ حَتَّى لَا يَبْلُغَ الدِّيَةَ إذَا كَانَ كَثِيرَ الْقِيمَةِ فَجَازَ أَنْ يَدْخُلَ فِي ضَمَانِ الْجِنَايَةِ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ كَالْحُرِّ (وَوَجْهُ) رِوَايَةِ الْفَرْقِ لَهُ أَنَّ الْجَمَالَ لَيْسَ بِمَقْصُودٍ فِي الْعَبِيدِ بَلْ الْمَقْصُودُ مِنْهُمْ الْخِدْمَةُ فَأَمَّا الْمَنْفَعَةُ فَمَقْصُودَةٌ مِنْ الْأَحْرَارِ وَالْعَبِيدِ جَمِيعًا وَلِأَنَّ مَا دُونَ النَّفْسِ مِنْ الْعَبِيدِ لَهُ شِبْهُ النَّفْسِ وَشِبْهُ الْمَالِ أَمَّا شِبْهُ النَّفْسِ فَظَاهِرٌ لِأَنَّهُ مِنْ أَجْزَاءِ النَّفْسِ حَقِيقَةً.
(وَأَمَّا) شِبْهُ الْمَالِ فَإِنَّهُ لَا يَجِبُ فِيهِ الْقِصَاصُ وَلَا تَتَحَمَّلُهُ الْعَاقِلَةُ فَيَجِبُ الْعَمَلُ بِالشَّبَهَيْنِ فَيُعْمَلُ بِشِبْهِ النَّفْسِ فِيمَا يُقْصَدُ بِهِ الْمَنْفَعَةُ بِتَقْدِيرِ ضَمَانِهِ بِالْقِيمَةِ كَمَا لَوْ جَنَى عَلَى النَّفْسِ وَيُعْمَلُ بِشِبْهِ الْمَالِ فِيمَا يُقْصَدُ بِهِ الْجَمَالُ فَلَمْ يُقَدَّرْ ضَمَانُهُ بِالْقِيمَةِ كَمَا إذَا أَتْلَفَ الْمَالَ عَمَلًا بِالشَّبَهَيْنِ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ، وَقَدْ خَرَجَ الْجَوَابُ عَمَّا ذَكَرَ مُحَمَّدٌ مِنْ عَدَمِ وُجُوبِ الْقِصَاصِ وَتَحَمُّلِ الْعَاقِلَةِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ عَمَلٌ بِشِبْهِ الْمَالِ، وَأَنَّهُ لَا يَنْفِي الْعَمَلَ بِشِبْهِ النَّفْسِ فَيَجِبُ الْعَمَلُ بِهِمَا جَمِيعًا، وَذَلِكَ فِيمَا قُلْنَا.
ثُمَّ الْحُرُّ إذَا فَقَأَ عَيْنَيْ عَبْدِ إنْسَانٍ أَوْ قَطَعَ يَدَيْهِ أَوْ رِجْلَيْهِ حَتَّى وَجَبَ عَلَيْهِ كَمَالُ الْقِيمَةِ فَمَوْلَاهُ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ سَلَّمَهُ إلَى الْفَاقِئِ وَأَخَذَ قِيمَتَهُ، وَإِنْ شَاءَ أَمْسَكَهُ وَلَا شَيْءَ لَهُ.
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ- رَحِمَهُمَا اللَّهُ- لَهُ أَنْ يَمْسِكَهُ وَيَأْخُذَ مَا نَقَصَهُ.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ- رَحِمَهُ اللَّهُ- لَهُ أَنْ يَمْسِكَهُ وَيَأْخُذَ جَمِيعَ الْقِيمَةِ (وَجْهُ) قَوْلِهِ أَنَّ الْوَاجِبَ فِيهِ- وَهُوَ الْقِيمَةُ- ضَمَانُ الْعُضْوَيْنِ الْفَائِتَيْنِ لَا غَيْرُ فَيَبْقَى الْبَاقِي عَلَى مِلْكِهِ كَمَا لَوْ فَقَأَ إحْدَى عَيْنَيْهِ أَوْ قَطَعَ إحْدَى يَدَيْهِ أَنَّهُ يَضْمَنُ نِصْفَ قِيمَتِهِ وَيَبْقَى الْبَاقِي عَلَى مِلْكِ مَالِكِهِ، كَذَا هَذَا.
(وَجْهُ) قَوْلِهِمَا أَنَّ الضَّمَانَ بِمُقَابَلَةِ الْعَيْنَيْنِ كَمَا قَالَ الشَّافِعِيُّ عَلَيْهِ الرَّحْمَةُ لَكِنَّ الرَّقَبَةَ هَلَكَتْ مِنْ وَجْهٍ لِفَوَاتِ مَنْفَعَةِ الْجِنْسِ فَيُخَيَّرُ الْمَوْلَى إنْ شَاءَ مَالَ إلَى جِهَةِ الْهَلَاكِ وَضَمِنَهُ الْقِيمَةَ وَسَلَّمَ الْعَبْدَ إلَى الْفَاقِئِ لِوُصُولِ عِوَضِ الرَّقَبَةِ إلَيْهِ، وَإِنْ شَاءَ مَالَ إلَى جِهَةِ الْقِيَامِ وَأَمْسَكَهُ وَضَمِنَ النُّقْصَانَ وَهُوَ بَدَلُ الْعَيْنَيْنِ، كَمَا يُخَيَّرُ صَاحِبُ الْمَالِ عِنْدَ النُّقْصَانِ الْفَاحِشِ فِي الْمَوَاضِعِ كُلِّهَا وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ لَمَّا وَصَلَ إلَى الْمَوْلَى بَدَلُ النَّفْسِ فَلَوْ بَقِيَ الْعَبْدُ عَلَى مِلْكِهِ لَاجْتَمَعَ الْبَدَلُ وَالْمُبْدَلُ فِي مِلْكِ رَجُلٍ فِيمَا يَصِحُّ تَمْلِيكُهُ بِعُقُودِ الْمُعَاوَضَاتِ، وَهَذَا لَا يَجُوزُ كَمَا لَا يَجُوزُ اجْتِمَاعُ الْمَبِيعِ وَالثَّمَنِ فِي مِلْكِ رَجُلٍ وَاحِدٍ، وَلَا يَلْزَمُ مَا إذَا غَصَبَ مُدَبَّرًا فَأَبَقَ مِنْ يَدِهِ أَنَّ الْمَوْلَى يَضْمَنُهُ قِيمَتَهُ، وَالْمُدَبَّرُ عَلَى مِلْكِهِ لِأَنَّهُ لَا يُحْتَمَلُ التَّمْلِيكُ بِعَقْدِ الْمُعَاوَضَةِ، وَلَا تَلْزَمُ الْهِبَةُ بِشَرْطِ الْعِوَضِ إذَا سَلَّمَ الْهِبَةَ، وَلَمْ يَقْبِضْ الْعِوَضَ أَنَّهُ اجْتَمَعَ عَلَى مِلْكِ الْمَوْهُوبِ لَهُ الْعِوَضُ وَالْمُعَوَّضُ؛ لِأَنَّ الْعِوَضَ قَبْلَ الْقَبْضِ لَا يَكُونُ عِوَضًا فَلَمْ يَجْتَمِعْ الْعِوَضُ وَالْمُعَوَّضُ، وَلَا يَلْزَمُ الْبَيْعُ الْفَاسِدُ إذَا قَبَضَ الْمُشْتَرِي الْمَبِيعَ، وَلَمْ يُسَلِّمْ الثَّمَنَ لِأَنَّ الثَّمَنَ لَيْسَ بِبَدَلٍ فِي الْبَيْعِ الْفَاسِدِ إنَّمَا الْبَدَلُ الْقِيمَةُ، وَقَدْ مَلَكَهَا الْبَائِعُ حِينَ مَلَكَ الْمُشْتَرِي الْمَبِيعَ فَلَمْ يَجْتَمِعْ الْبَدَلُ وَالْمُبْدَلُ فِي مِلْكِهِ.
وَلَا يَلْزَمُ مَا إذَا اشْتَرَى عَبْدًا بِجَارِيَةٍ عَلَى أَنَّهُ بِالْخِيَارِ فَقَبَضَ الْعَبْدَ فَأَعْتَقَهُمَا جَمِيعًا أَنَّهُ يَنْفُذُ إعْتَاقُهُ فِيهِمَا جَمِيعًا، وَقَدْ اجْتَمَعَ الْعِوَضُ وَالْمُعَوَّضُ عَلَى مِلْكِهِ لِأَنَّهُ لَمَّا أَعْتَقَهُمَا فَسَدَ الْبَيْعُ فِي الْجَارِيَةِ وَصَارَ الْعِوَضُ عَنْ الْعَبْدِ الْقِيمَةَ، وَمَلَكَهَا الْبَائِعُ فِي مُقَابَلَةِ مِلْكِ الْعَبْدِ فَلَمْ يَجْتَمِعْ الْعِوَضُ وَالْمُعَوَّضُ، وَلَا يَلْزَمُ مَا إذَا اسْتَأْجَرَ شَيْئًا وَعَجَّلَ الْأُجْرَةَ أَنَّ الْمُؤَاجِرَ يَمْلِكُهَا، وَالْمَنَافِعُ عَلَى مِلْكِهِ فَقَدْ اجْتَمَعَ الْبَدَلُ وَالْمُبْدَلُ فِي مِلْكِ وَاحِدٍ؛ لِأَنَّ الْمَنَافِعَ لَا تُمْلَكُ عِنْدَنَا إلَّا بَعْدَ وُجُودِهَا، وَكُلَّمَا وُجِدَ جُزْءٌ مِنْهَا حَدَثَ عَلَى مِلْكِ الْمُسْتَأْجَرِ فَلَمْ يَجْتَمِعْ الْعِوَضُ وَالْمُعَوَّضُ عَلَى مِلْكِ الْمُؤَاجِرِ، وَلَا يَلْزَمُ مَا إذَا غَصَبَ عَبْدًا فَجَنَى عِنْدَهُ جِنَايَةً ثُمَّ رَدَّهُ عَلَى مَوْلَاهُ فَجَنَى عِنْدَهُ جِنَايَةً أُخْرَى وَدَفَعَهُ بِالْجِنَايَتَيْنِ أَنَّهُ يَرْجِعُ عَلَى الْغَاصِبِ بِنِصْفِ الْقِيمَةِ فَيَدْفَعُهَا إلَى وَلِيِّ الْجِنَايَةِ الْأُولَى، وَمَعْلُومٌ أَنَّ نِصْفَ الْقِيمَةِ عِوَضٌ عَنْ نَصْفِ الرَّقَبَةِ الَّذِي سَلَّمَ لَهُ فَقَدْ اجْتَمَعَ فِي مِلْكِهِ، وَهُوَ نِصْفُ الْعَبْدِ الْعِوَضُ وَالْمُعَوَّضُ لِأَنَّ الْمُمْتَنِعَ اجْتِمَاعُ الْعِوَضِ وَالْمُعَوَّضِ فِي مِلْكِ رَجُلٍ بِعَقْدِ الْمُعَاوَضَةِ، وَلَمْ يُوجَدْ هُنَاكَ؛ لِأَنَّ وَلِيَّ الْجِنَايَةِ إنَّمَا يَأْخُذُ عِوَضًا عَنْ جِنَايَتِهِ لَا عَنْ الْمَالِ، وَاجْتِمَاعُ الْعِوَضِ وَالْمُعَوَّضِ فِي مِلْكِ رَجُلٍ وَاحِدٍ بِغَيْرِ عَقْدِ الْمُعَاوَضَةِ جَائِزٌ كَمَنْ اسْتَوْهَبَ الْمَبِيعَ مِنْ الْبَائِعِ وَالثَّمَنَ مِنْ الْمُشْتَرِي أَوْ وَرِثَهُمَا، وَاَللَّهُ- سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- أَعْلَمُ.
وَإِنْ كَانَ الْجَانِي عَبْدًا وَالْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ حُرًّا، أَوْ كَانَا جَمِيعًا عَبْدَيْنِ فَحُكْمُ هَذِهِ الْجِنَايَةِ وُجُوبُ الدَّفْعِ إلَّا أَنْ يَخْتَارَ الْمَوْلَى الْفِدَاءَ عَلَى مَا ذَكَرْنَا فِي جِنَايَاتِ الْعَبِيدِ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ.
وَأَمَّا الَّذِي يَجِبُ فِيهِ أَرْشٌ مُقَدَّرٌ فَفِي كُلِّ اثْنَيْنِ مِنْ الْبَدَنِ فِيهِمَا كَمَالُ الدِّيَةِ فِي أَحَدِهِمَا نِصْفُ الدِّيَةِ مِنْ إحْدَى الْعَيْنَيْنِ وَالْيَدَيْنِ وَالرِّجْلَيْنِ وَالْأُذُنَيْنِ وَالْحَاجِبَيْنِ إذَا لَمْ تَنْبُتْ وَالشَّفَتَيْنِ وَالْأُنْثَيَيْنِ وَالثَّدْيَيْنِ وَالْحَلَمَتَيْنِ لِمَا رُوِيَ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «كَتَبَ فِي كِتَابِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ وَفِي الْعَيْنَيْنِ الدِّيَةُ وَفِي إحْدَاهُمَا نِصْفُ الدِّيَةِ وَفِي الْيَدَيْنِ الدِّيَةُ وَفِي إحْدَاهُمَا نِصْفُ الدِّيَةِ»؛ وَلِأَنَّ كُلَّ الدِّيَةِ عِنْدَ قَطْعِ الْعُضْوَيْنِ يُقَسَّمُ عَلَيْهِمَا فَيَكُونُ فِي أَحَدِهِمَا النِّصْفُ؛ لِأَنَّ وُجُوبَ الْكُلِّ فِي الْعُضْوَيْنِ لِتَفْوِيتِ كُلِّ الْمَنْفَعَةِ الْمَقْصُودَةِ مِنْ الْعُضْوَيْنِ، وَالْفَائِتُ بِقَطْعِ أَحَدِهِمَا النِّصْفُ فَيَجِبُ فِيهِ نِصْفُ الدِّيَةِ، وَيَسْتَوِي فِيهِ الْيَمِينُ وَالْيَسَارُ لِأَنَّ الْحَدِيثَ لَا يُوجِبُ الْفَصْلَ بَيْنَهُمَا، وَسَوَاءٌ ذَهَبَ بِالْجِنَايَةِ عَلَى الْعَيْنِ نُورُ الْبَصَرِ دُونَ الشَّحْمَةِ أَوْ ذَهَبَ الْبَصَرُ مَعَ الشَّحْمَةِ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ الْعَيْنِ الْبَصَرُ، وَالشَّحْمَةُ فِيهِ تَابِعَةٌ.
وَكَذَا الْعُلْيَا وَالسُّفْلَى مِنْ الشَّفَتَيْنِ سَوَاءٌ عِنْدَ عَامَّةِ الصَّحَابَةِ رِضْوَانُ اللَّهِ تَعَالَى عَنْهُمْ.
وَرُوِيَ عَنْ زَيْدٍ بْنِ ثَابِتٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ فَصَلَ بَيْنَهُمَا فَأَوْجَبَ فِي السُّفْلَى الثُّلُثَيْنِ وَفِي الْعُلْيَا الثُّلُثُ لِزِيَادَةِ جَمَالٍ فِي الْعُلْيَا وَمَنْفَعَةٍ فِي السُّفْلَى، وَبَقِيَّةُ الصَّحَابَةِ سَوَّوْا بَيْنَهُمَا، وَهُوَ قَوْلُ جَمَاعَةٍ مِنْ التَّابِعِينَ مِثْلِ شُرَيْحٍ، وَإِبْرَاهِيمَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَغَيْرِهِمَا، سَوَاءٌ قَطَعَ الْحَلَمَةَ مِنْ ثَدْيِ الْمَرْأَةِ أَوْ قَطَعَ الثَّدْيَ وَفِيهِ الْحَلَمَةُ فَفِيهِ نِصْفُ الدِّيَةِ لِلْحَلَمَةِ، وَالثَّدْيُ تَبَعٌ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ الثَّدْيِ وَهُوَ مَنْفَعَةُ الرَّضَاعِ يَفُوتُ بِفَوَاتِ الْحَلَمَةِ، وَسَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ بِضَرْبَةٍ أَوْ ضَرْبَتَيْنِ إذَا كَانَ قَبْلَ الْبُرْءِ مِنْ الْأُولَى لِأَنَّ الْجِنَايَةَ لَا تَسْتَقِرُّ قَبْلَ الْبُرْءِ فَإِذَا أَتْبَعَهَا الثَّانِيَةَ قَبْلَ اسْتِقْرَارِهَا صَارَ كَأَنَّهُ أَوْقَعَهُمَا مَعًا.
وَفِي أَصَابِعِ الْيَدَيْنِ وَالرِّجْلَيْنِ فِي كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهَا عُشْرُ الدِّيَةِ، وَهِيَ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ لَا فَضْلَ لِبَعْضٍ عَلَى بَعْضٍ، وَالْأَصْلُ فِيهِ مَا رُوِيَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «فِي كُلِّ أُصْبُعٍ عَشْرٌ مِنْ الْإِبِلِ» مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنَ أُصْبُعٍ وَأُصْبُعٍ وَرُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ قَالَ هَذِهِ وَهَذِهِ سَوَاءٌ، وَأَشَارَ إلَى الْخِنْصَرِ وَالْإِبْهَامِ، وَسَوَاءٌ قَطَعَ أَصَابِعَ الْيَدِ وَحْدَهَا أَوْ قَطَعَ الْكَفَّ وَمَعَهَا الْأَصَابِعُ.
وَكَذَلِكَ الْقَدَمُ مَعَ الْأَصَابِعِ لِمَا رُوِيَ عَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ: «فِي الْأَصَابِعِ فِي كُلِّ أُصْبُعٍ عَشْرٌ مِنْ الْإِبِلِ» مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنَ مَا إذَا قَطَعَ الْأَصَابِعَ وَحْدَهَا أَوْ قَطَعَ الْكَفَّ الَّتِي فِيهَا الْأَصَابِعُ وَلِأَنَّ الْأَصَابِعَ أَصْلٌ وَالْكَفُّ تَابِعَةٌ لَهَا لِأَنَّ الْمَنْفَعَةَ الْمَقْصُودَةَ مِنْ الْيَدِ الْبَطْشُ، وَأَنَّهَا تَحْصُلُ بِالْأَصَابِعِ فَكَانَ إتْلَافُهَا إتْلَافًا لِلْيَدِ، وَسَوَاءٌ قَطَعَ الْأَصَابِعَ أَوْ شُلَّ مِنْ الْجِرَاحَةِ أَوْ يَبِسَ فَفِيهِ عَقْلُهُ تَامًّا؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهُ يَفُوتُ، وَمَا كَانَ مِنْ الْأَصَابِعِ فِيهِ ثَلَاثُ مَفَاصِلَ فَفِي كُلِّ مِفْصَلٍ ثُلُثُ دِيَةِ الْأُصْبُعِ، وَمَا كَانَ فِيهِ مَفْصِلَانِ فَفِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصْفُ دِيَةِ الْإِصْبَعِ؛ لِأَنَّ مَا فِي الْإِصْبَعِ يَنْقَسِمُ عَلَى مَفَاصِلِهَا كَمَا يَنْقَسِمُ مَا فِي الْيَدِ عَلَى عَدَدِ الْأَصَابِعِ، وَفِي إحْدَى أَشْفَارِ الْعَيْنَيْنِ رُبْعُ الدِّيَةِ، وَفِي الِاثْنَيْنِ نِصْفُ الدِّيَةِ، وَفِي الثَّلَاثِ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ الدِّيَةِ إنْ لَمْ يَنْبُتْ؛ لِأَنَّ فِي الْأَشْفَارِ كُلِّهَا كُلَّ الدِّيَةِ فَتُقَسَّمُ الدِّيَةُ عَلَى عَدَدِهَا كَمَا تُقَسَّمُ الدِّيَةُ عَلَى الْيَدَيْنِ، وَإِنْ نَبَتَ فَلَا شَيْءَ فِيهِ سَوَاءٌ قَطَعَ الشَّفْرَ وَحْدَهُ أَوْ قَطَعَ مَعَهُ الْجَفْنَ لِأَنَّ الْجَفْنَ تَبَعٌ لِلشَّفْرِ كَالْكَفِّ وَالْقَدَمِ لِلْأَصَابِعِ.
وَكَذَا أَهْدَابُ الْعَيْنَيْنِ إذَا لَمْ تَنْبُتْ حُكْمُهَا حُكْمُ الْأَشْفَارِ.
وَفِي كُلِّ سِنٍّ خَمْسٌ مِنْ الْإِبِلِ يَسْتَوِي فِيهِ الْمُقَدَّمُ وَالْمُؤَخَّرُ وَالثَّنَايَا وَالْأَضْرَاسُ وَالْأَنْيَابُ، وَالْأَصْلُ فِيهِ مَا رُوِيَ عَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ: «فِي كُلِّ سِنٍّ خَمْسٌ مِنْ الْإِبِلِ» مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنَ سِنٍّ وَسِنٍّ، وَمِنْ النَّاسِ مَنْ فَضَّلَ أَرْشَ الطَّوَاحِنِ عَلَى أَرْشِ الضَّوَاحِكِ، وَهَذَا غَيْرُ سَدِيدٍ لِأَنَّ الْحَدِيثَ لَا يُوجِبُ الْفَضْلَ وَهَذَا لَا يَجْرِي عَلَى قِيَاسِ الْأَصَابِعِ؛ لِأَنَّ الشَّرْعَ وَرَدَ فِي كُلِّ سِنٍّ بِخَمْسٍ مِنْ الْإِبِلِ؛ لِأَنَّ الْأَسْنَانَ اثْنَانِ وَثَلَاثُونَ فَيَزِيدُ الْوَاجِبُ فِي جُمْلَتِهَا عَلَى قَدْرِ الدِّيَةِ.
وَلَوْ ضَرَبَ رَجُلًا ضَرْبَةً فَأَلْقَى أَسْنَانَهُ كُلَّهَا فَعَلَيْهِ دِيَةٌ وَثَلَاثَةُ أَخْمَاسِ الدِّيَةِ؛ لِأَنَّ جُمْلَةَ الْأَسْنَانِ اثْنَانِ وَثَلَاثُونَ سِنًّا، عِشْرُونَ ضِرْسًا وَأَرْبَعَةُ أَنْيَابٍ، وَأَرْبَعُ ثَنَايَا وَأَرْبَعُ ضَوَاحِكَ فِي كُلِّ سِنٍّ نِصْفُ عُشْرِ الدِّيَةِ فَيَكُونُ جُمْلَتُهَا سِتَّةَ عَشْرَ أَلْفَ دِرْهَمٍ، وَهِيَ دِيَةٌ وَثَلَاثَةُ أَخْمَاسِ دِيَةٍ تُؤَدَّى هَذِهِ الْجُمْلَةُ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ، فِي السَّنَةِ الْأُولَى ثُلُثَا الدِّيَةِ ثُلُثٌ مِنْ ذَلِكَ مِنْ الدِّيَةِ الْكَامِلَةِ، وَهِيَ عَشَرَةُ آلَافِ دِرْهَمٍ، وَثُلُثٌ مِنْ ثَلَاثَةِ أَخْمَاسِ الدِّيَةِ وَهِيَ سِتَّةُ آلَافِ دِرْهَمٍ، وَفِي السَّنَةِ الثَّانِيَةِ الثُّلُثُ مِنْ الدِّيَةِ الْكَامِلَةِ وَالْبَاقِي مِنْ ثَلَاثَةِ أَخْمَاسِ الدِّيَةِ، وَفِي السَّنَةِ الثَّالِثَةِ ثُلُثُ الدِّيَةِ، وَهُوَ مَا بَقِيَ مِنْ الدِّيَةِ الْكَامِلَةِ، وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ لِأَنَّ الدِّيَةَ الْكَامِلَةَ تُؤَدَّى فِي ثَلَاثِ سِنِينَ فِي كُلِّ سَنَةٍ ثُلُثُهَا وَثَلَاثَةُ أَخْمَاسِ الدِّيَةِ، وَهِيَ سِتَّةُ آلَافِ دِرْهَمٍ تُؤَدَّى فِي سَنَتَيْنِ مِنْ السِّنِينَ الثَّلَاثِ، وَهَذَا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ قَدْرُ الْمُؤَدَّى مِنْ الدِّيَةِ الْكَامِلَةِ وَالنَّاقِصَةِ فِي السَّنَتَيْنِ الْأُولَيَيْنِ، وَقَدْرُ الْمُؤَدَّى مِنْ الدِّيَةِ الْكَامِلَةِ فِي السَّنَةِ الثَّالِثَةِ مَا وَصَفْنَا، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ.
وَلَوْ ضَرَبَ أَسْنَانَ رَجُلٍ وَتَحَرَّكَتْ يُنْتَظَرُ بِهَا حَوْلًا لِمَا رُوِيَ عَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ: «يُسْتَأْنَى بِالْجِرَاحِ حَتَّى تَبْرَأَ» وَالتَّقْدِيرُ بِالسَّنَةِ لِأَنَّهَا مُدَّةٌ يَظْهَرُ فِيهَا حَقِيقَةُ حَالِهَا مِنْ السُّقُوطِ وَالتَّغَيُّرِ وَالثُّبُوتِ، وَسَوَاءٌ كَانَ الْمَضْرُوبُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا، كَذَا رُوِيَ فِي الْمُجَرَّدِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ يُؤَجَّلُ سَنَةً سَوَاءٌ كَانَ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ- رَحِمَهُ اللَّهُ- يُنْتَظَرُ فِي الصَّغِيرِ وَلَا يُنْتَظَرُ فِي الرَّجُلِ.
وَعَنْ مُحَمَّدٍ- رَحِمَهُ اللَّهُ- أَنَّهُ يُنْتَظَرُ إذَا تَحَرَّكَتْ وَإِذَا سَقَطَتْ لَا يُنْتَظَرُ.
وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ السِّنَّ إذَا تَحَرَّكَتْ قَدْ تَثْبُتُ وَقَدْ تَسْقُطُ فَأَمَّا إذَا سَقَطَتْ فَالظَّاهِرُ أَنَّهَا لَا تَثْبُتُ.
وَجْهُ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ فِي الْفَرْقِ بَيْنَ الصَّغِيرِ، وَالْكَبِيرِ أَنَّ سِنَّ الصَّغِيرِ يَثْبُتُ ظَاهِرًا وَغَالِبًا، وَسِنُّ الْكَبِيرِ لَا تَثْبُتُ ظَاهِرًا.
وَجْهُ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ احْتِمَالَ النَّبَاتِ ثَابِتٌ فَيَجِبُ التَّوَقُّفُ فِيهِ فَإِنْ اشْتَدَّتْ وَلَمْ تَسْقُطْ فَلَا شَيْءَ فِيهَا.
وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ- رَحِمَهُ اللَّهُ- فِيهَا حُكُومَةُ عَدْلٍ، وَإِنْ تَغَيَّرَتْ فَإِنْ كَانَ التَّغَيُّرُ إلَى السَّوَادِ أَوْ إلَى الْحُمْرَةِ أَوْ إلَى الْخُضْرَةِ فَفِيهَا الْأَرْشُ تَامًّا لِأَنَّهُ ذَهَبَتْ مَنْفَعَتُهَا، وَذَهَابُ مَنْفَعَةِ الْعُضْوِ بِمَنْزِلَةِ ذَهَابِ الْعُضْوِ، وَإِنْ كَانَ التَّغَيُّرُ إلَى الصُّفْرَةِ فَفِيهَا حُكُومَةُ الْعَدْلِ.
وَرُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ إنْ كَانَ حُرًّا فَلَا شَيْءَ فِيهِ، وَإِنْ كَانَ مَمْلُوكًا فَفِيهِ الْحُكُومَةُ.
وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ لَا تَكَادُ تَصِحُّ عَنْهُ؛ لِأَنَّ الْحُرَّ أَوْلَى بِإِيجَابِ الْأَرْشِ مِنْ الْعَبْدِ.
وَقَالَ زُفَرُ- رَحِمَهُ اللَّهُ- فِي الصُّفْرَةِ الْأَرْشُ تَامًّا كَمَا فِي السَّوَادِ؛ لِأَنَّ كُلَّ ذَلِكَ يُفَوِّتُ الْجَمَالَ.
(وَلَنَا) أَنَّ الصُّفْرَةَ لَا تُوجِبُ فَوَاتَ الْمَنْفَعَةِ، وَإِنَّمَا تُوجِبُ نُقْصَانَهَا فَتُوجِبُ حُكُومَةَ الْعَدْلِ.
وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ إنْ كَثُرَتْ الصُّفْرَةُ حَتَّى تَكُونَ عَيْبًا كَعَيْبِ الْحُمْرَةِ وَالْخُضْرَةِ فَفِيهَا عَقْلُهَا تَامًّا، وَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ هَذَا قَوْلُهُمْ جَمِيعًا.
وَإِنْ سَقَطَتْ فَإِنْ نَبَتَ مَكَانَهَا أُخْرَى يُنْظَرُ إنْ نَبَتَتْ صَحِيحَةً فَلَا شَيْءَ فِيهَا فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ الْأَرْشُ كَامِلًا، كَذَا ذَكَرَ الْكَرْخِيُّ- رَحِمَهُ اللَّهُ، وَذَكَرَ الْقَاضِي فِي شَرْحِهِ مُخْتَصَرَ الطَّحَاوِيِّ- رَحِمَهُ اللَّهُ- أَنَّ عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ فِيهَا حُكُومَةَ الْعَدْلِ.
وَجْهُ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ فَوَّتَ السِّنَّ، وَالنَّابِتُ لَا يَكُونُ عِوَضًا عَنْ الْفَائِتِ؛ لِأَنَّ هَذَا الْعِوَضَ مِنْ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى فَلَا يَسْقُطُ بِهِ الضَّمَانُ الْوَاجِبُ كَمَنْ أَتْلَفَ مَالَ إنْسَانٍ ثُمَّ إنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى رَزَقَ الْمُتْلَفَ عَلَيْهِ مِثْلَ الْمُتْلَفِ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ- رَحِمَهُ اللَّهُ- أَنَّ السِّنَّ يُسْتَأْنَى بِهَا فَلَوْلَا أَنَّ الْحُكْمَ يَخْتَلِفُ بِالنَّبَاتِ لَمْ يَكُنْ لِلِاسْتِينَاءِ فِيهِ مَعْنًى لِأَنَّهُ لَمَّا نَبَتَتْ فَقَدْ عَادَتْ الْمَنْفَعَةُ وَالْجَمَالُ، وَقَامَتْ الثَّانِيَةُ مَقَام الْأُولَى كَأَنَّ الْأُولَى قَائِمَةٌ كَسِنِّ الصَّبِيِّ هَذَا إذَا نَبَتَتْ بِنَفْسِهَا فَأَمَّا إذَا رَدَّهَا صَاحِبُهَا إلَى مَكَانِهَا فَاشْتَدَّتْ وَنَبَتَ عَلَيْهَا اللَّحْمُ فَعَلَى الْقَالِعِ الْأَرْشُ بِكَمَالِهِ؛ لِأَنَّ الْمُعَادَةَ لَا يُنْتَفَعُ بِهَا لِانْقِطَاعِ الْعُرُوقِ بَلْ يَبْطُلُ بِأَدْنَى شَيْءٍ فَكَانَتْ إعَادَتُهَا وَالْعَدَمُ بِمَنْزِلَةٍ وَاحِدَةٍ، وَلِهَذَا جَعَلَهَا مُحَمَّدٌ فِي حُكْمِ الْمَيْتَةِ حَتَّى قَالَ إنْ كَانَتْ أَكْثَرَ مِنْ قَدْرِ الدِّرْهَمِ لَمْ تَجُزْ الصَّلَاةُ مَعَهَا، وَأَبُو يُوسُفَ- رَحِمَهُ اللَّهُ- فَرَّقَ بَيْنَ سِنِّ نَفْسِهِ وَسِنِّ غَيْرِهِ فَأَجَازَ الصَّلَاةَ فِي سِنِّ نَفْسِهِ دُونَ سِنِّ غَيْرِهِ، وَعَلَى هَذَا إذَا قَطَعَ أُذُنَهُ فَخَاطَهَا فَالْتَحَمَتْ إنَّهُ لَا يَسْقُطُ عَنْهُ الْأَرْشُ لِأَنَّهَا لَا تَعُودُ إلَى مَا كَانَتْ عَلَيْهِ فَلَا يَعُودُ الْجَمَالُ هَذَا إذَا نَبَتَتْ مَكَانَهَا أُخْرَى صَحِيحَةً فَأَمَّا إذَا نَبَتَتْ مُعْوَجَّةً فَفِيهَا حُكُومَةُ الْعَدْلِ بِالْإِجْمَاعِ، وَإِنْ نَبَتَتْ مُتَغَيِّرَةً بِأَنْ نَبَتَتْ سَوْدَاءَ أَوْ حَمْرَاءَ أَوْ خَضْرَاءَ أَوْ صَفْرَاءَ فَحُكْمُهَا حُكْمُ مَا لَوْ كَانَتْ قَائِمَةً فَتَغَيَّرَتْ بِالضَّرْبَةِ لِأَنَّ النَّابِتَ قَامَ مَقَامَ الذَّاهِبِ فَكَأَنَّ الْأُولَى قَائِمَةٌ وَتَغَيَّرَتْ، وَقَدْ بَيَّنَّا حُكْمَ ذَلِكَ.
(وَأَمَّا) سِنُّ الصَّبِيِّ إذَا ضُرِبَ عَلَيْهَا فَسَقَطَتْ فَإِنْ كَانَ قَدْ ثُغِرَ فَسِنُّهُ وَسِنُّ الْبَالِغِ سَوَاءٌ، وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ، وَإِنْ كَانَ قَبْلَ أَنْ يُثْغَرَ فَإِنْ لَمْ تَنْبُتْ أَوْ نَبَتَتْ مُتَغَيِّرَةً فَكَذَلِكَ، وَإِنْ نَبَتَتْ صَحِيحَةً فَلَا شَيْءَ فِيهَا فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَمَا فِي سِنِّ الْبَالِغِ، وَفِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ- رَحِمَهُ اللَّهُ- فِيهَا حُكُومَةُ الْأَلَمِ فَرَّقَ أَبُو يُوسُفَ عَلَى مَا ذَكَرَهُ الْكَرْخِيُّ- رَحِمَهُ اللَّهُ- بَيْنَ سِنِّ الْبَالِغِ وَالصَّبِيِّ؛ لِأَنَّ سِنَّ الصَّبِيِّ إذَا لَمْ يُثْغَرْ لَا نَبَاتَ لَهُ إلَّا عَلَى شَرَفِ السُّقُوطِ، بِخِلَافِ سِنِّ الْبَالِغِ، وَهَذِهِ فُرَيْعَةُ مَسْأَلَةِ الشَّجَّةِ إذَا الْتَحَمَتْ وَنَبَتَ الشَّعْرُ عَلَيْهَا أَنَّهُ لَا شَيْءَ عَلَى الشَّاجِّ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ عَلَيْهِ الرَّحْمَةُ فِيهَا حُكُومَةُ الْأَلَمِ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الرَّحْمَةُ فِيهَا أُجْرَةُ الطَّبِيبِ.
وَالْمَسْأَلَةُ تَأْتِي فِي بَيَانِ حُكْمِ الشِّجَاجِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَلَوْ ضَرَبَ عَلَى سِنِّ إنْسَانٍ فَتَحَرَّكَ فَأَجَّلَهُ الْقَاضِي سَنَةً ثُمَّ جَاءَ الْمَضْرُوبَ وَقَدْ سَقَطَتْ سِنُّهُ فَقَالَ إنَّمَا سَقَطَتْ مِنْ ضَرْبَتِك وَقَالَ الضَّارِبُ مَا سَقَطَتْ بِضَرْبَتِي فَالْمَضْرُوبُ لَا يَخْلُو (إمَّا) أَنْ جَاءَ فِي السَّنَةِ (وَإِمَّا) أَنْ جَاءَ بَعْدَ مُضِيِّ السَّنَةِ فَإِنْ جَاءَ فِي السَّنَةِ فَالْقِيَاسُ أَنْ يَكُونَ الْقَوْلُ قَوْلَ الضَّارِبِ، وَفِي الِاسْتِحْسَانِ الْقَوْلُ قَوْلُ الْمَضْرُوبِ.
وَلَوْ شَجَّ رَأْسَ إنْسَانٍ مُوضِحَةً فَصَارَتْ مُنَقِّلَةً فَاخْتَلَفَا فِي ذَلِكَ فَقَالَ الْمَشْجُوجُ صَارَتْ مُنَقِّلَةً بِضَرْبَتِك وَعَلَيْك أَرْشُ الْمُنَقِّلَةِ وَقَالَ الشَّاجُّ لَا بَلْ صَارَتْ مُنَقِّلَةً بِضَرْبَةٍ أُخْرَى حَدَثَتْ فَالْقِيَاسُ عَلَى السِّنِّ أَنْ يَكُونَ الْقَوْلُ قَوْلَ الشَّاجِّ، وَفِي الِاسْتِحْسَانِ الْقَوْلُ قَوْلُ الْمَشْجُوجِ، وَلِلْقِيَاسِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا أَنَّ الْمَضْرُوبَ وَالْمَشْجُوجَ يَدَّعِيَانِ عَلَى الضَّارِبِ وَالشَّاجِّ الضَّمَانَ وَهُمَا يُنْكِرَانِ، وَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُنْكِرِ مَعَ يَمِينِهِ وَالثَّانِي أَنَّهُ وَقَعَ التَّعَارُضَ بَيْنَ قَوْلَيْهِمَا، وَالضَّمَانُ لَمْ يَكُنْ وَاجِبًا فَلَا تَجِبُ بِالشَّكِّ.
وَإِلَى هَذَا أَشَارَ مُحَمَّدٌ فِي الْأَصْلِ فَقَالَ اُسْتُحْسِنَ فِي السِّنِّ لِوُرُودِ الْأَثَرِ، وَالْأَثَرُ عَنْ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيّ رَحِمَهُ اللَّهُ، وَلِلِاسْتِحْسَانِ وَجْهَانِ مِنْ الْفَرْقِ: أَحَدُهُمَا أَنَّ الظَّاهِرَ شَاهِدٌ لِلْمَضْرُوبِ فِي مَسْأَلَةِ السِّنِّ؛ لِأَنَّ سَبَبَ السُّقُوطِ حَصَلَ مِنْ الضَّارِبِ وَهُوَ الضَّرْبُ الْمُحَرِّكُ لِأَنَّ التَّحَرُّكَ سَبَبُ السُّقُوطِ فَكَانَ الظَّاهِرُ شَاهِدًا لِلْمَضْرُوبِ بِخِلَافِ الشَّجَّةِ؛ لِأَنَّ الشَّجَّةَ الْمُوضِحَةُ لَا تَكُون سَبَبًا لِصَيْرُورَتِهَا مُنَقِّلَةً فَلَمْ يَكُنْ الظَّاهِرُ شَاهِدًا لَهُ، وَالْقَوْلُ قَوْلُ مَنْ يَشْهَدُ لَهُ الظَّاهِرُ.
وَالثَّانِي أَنَّهُ لَمَّا جَرَى التَّأْجِيلُ حَوْلًا فِي السِّنِّ، وَالتَّأْجِيلُ مُدَّةَ الْحَوْلِ لِانْتِظَارِ مَا يَكُونُ مِنْ الضَّرْبَةِ فَإِذَا جَاءَ فِي الْحَوْلِ، وَقَدْ سَقَطَتْ سِنُّهُ فَقَدْ جَاءَ بِمَا وَقَعَ لَهُ الِانْتِظَارُ مِنْ الضَّرْبَةِ فِي مُدَّةِ الِانْتِظَارِ فَكَانَ الظَّاهِرُ شَاهِدًا لَهُ (فَأَمَّا) الشَّجَّةُ فَلَمْ يُقَدَّرْ فِي انْتِظَارِهَا وَقْتٌ فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَ الشَّاجِّ فِي قَدْرِ الشَّجَّةِ، وَإِنْ جَاءَ بَعْدَ مُضِيِّ السَّنَةِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الضَّارِبِ؛ لِأَنَّ التَّأْجِيلَ مُدَّةَ الْحَوْلِ لِاسْتِقْرَارِ حَالِ السِّنِّ لِظُهُورِ حَالِهَا فِي هَذِهِ الْمُدَّةِ عَادَةً فَإِذَا لَمْ يَجِئْ دَلَّ عَلَى سَلَامَتِهَا عَنْ السُّقُوطِ بِالضَّرْبَةِ فَكَانَ السُّقُوطُ مُحَالًا إلَى سَبَبٍ حَادِثٍ فَكَانَ الظَّاهِرُ شَاهِدًا لِلضَّارِبِ أَوْ لَمْ يَشْهَدْ لِأَحَدِهِمَا فَيَبْقَى الْمَضْرُوبُ مُدَّعِيًا ضَمَانًا عَلَى الضَّارِبِ، وَهُوَ يُنْكِرُ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ.
أَوْ يَقَعُ التَّعَارُضَ فَيَقَعُ الشَّكُّ فِي وُجُوبِ الضَّمَانِ، وَالضَّمَانُ لَا يَجِبُ بِالشَّكِّ.
وَكَذَا عَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي زَمَانُ مَا بَعْدَ الْحَوْلِ لَمْ يُجْعَلْ لِانْتِظَارِ حَالِ السِّنِّ فَاحْتُمِلَ السُّقُوطُ مِنْ ضَرْبَةٍ أُخْرَى مِنْ غَيْرِهِ، وَاحْتُمِلَ مِنْ ضَرْبَتِهِ فَلَا يُمْكِنُ الْقَوْلُ بِوُجُوبِ الضَّمَانِ مَعَ وُقُوعِ الشَّكِّ فِي وُجُوبِهِ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.
(وَأَمَّا) الشِّجَاجُ فَالْكَلَامُ فِي الشَّجَّةِ يَقَعُ فِي مَوْضِعَيْنِ: أَحَدُهُمَا فِي بَيَانِ حُكْمِهَا بِنَفْسِهَا، وَالثَّانِي فِي بَيَانِ حُكْمِهَا بِغَيْرِهَا.
أَمَّا الْأَوَّلُ فَالْمُوضِحَةُ إذَا بَرِئَتْ وَبَقِيَ لَهَا أَثَرٌ فَفِيهَا خَمْسٌ مِنْ الْإِبِل، وَفِي الْهَاشِمَة عَشْرٌ، وَفِي الْمُنَقِّلَةِ خَمْسَ عَشْرَةَ، وَفِي الْآمَّةِ ثُلُثُ الدِّيَةِ هَكَذَا رُوِيَ عَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ: «فِي الْمُوضِحَةِ خَمْسٌ مِنْ الْإِبِلِ، وَفِي الْهَاشِمَةِ عَشْرٌ، وَفِي الْمُنَقِّلَةِ خَمْسَ عَشْرَةَ، وَفِي الْآمَّةِ ثُلُثُ الدِّيَةِ»، وَلَيْسَ فِيمَا قَبْلَ الْمُوضِحَةِ مِنْ الشِّجَاجِ أَرْشٌ مُقَدَّرٌ، وَإِنْ لَمْ يَبْقَ لَهَا أَثَرٌ بِأَنْ الْتَحَمَتْ، وَنَبَتَ عَلَيْهَا الشَّعْرُ فَلَا شَيْءَ فِيهَا فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ عَلَيْهِ حُكُومَةُ الْأَلَمِ وَقَالَ مُحَمَّدٌ عَلَيْهِ أُجْرَةُ الطَّبِيبِ (وَجْهُ) قَوْلِهِ أَنَّ أُجْرَةَ الطَّبِيبِ إنَّمَا لَزِمَتْهُ بِسَبَبِ هَذِهِ الشَّجَّةِ فَكَأَنَّهُ أَتْلَفَ عَلَيْهِ هَذَا الْقَدْرَ مِنْ الْمَالِ وَلِأَبِي يُوسُفَ أَنَّ الشَّجَّةَ قَدْ تَحَقَّقَتْ، وَلَا سَبِيلَ إلَى إهْدَارِهَا، وَقَدْ تَعَذَّرَ إيجَابُ أَرْشِ الشَّجَّةِ فَيَجِبُ أَرْشُ الْأَلَمِ (وَجْهُ) قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ- رَحِمَهُ اللَّهُ- أَنَّ الْأَرْشَ إنَّمَا يَجِبُ بِالشَّيْنِ الَّذِي يَلْحَقُ الْمَشْجُوجَ بِالْأَثَرِ وَقَدْ زَالَ ذَلِكَ فَسَقَطَ الْأَرْشُ وَالْقَوْلُ بِلُزُومِ حُكُومَةِ الْأَلَمِ غَيْرُ سَدِيدٍ لِأَنَّ مُجَرَّدَ الْأَلَمِ لَا ضَمَانَ لَهُ فِي الشَّرْعِ كَمَنْ ضَرَبَ رَجُلًا ضَرْبًا وَجِيعًا، وَكَذَا إيجَابُ أُجْرَةِ الطَّبِيبِ لِأَنَّ الْمَنَافِعَ عَلَى أَصْلِ أَصْحَابِنَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ لَا تَتَقَوَّمُ مَالًا بِالْعَقْدِ أَوْ شُبْهَةِ الْعَقْدِ، وَلَمْ يُوجَدْ فِي حَقِّ الْجَانِي الْعَقْدُ وَلَا شُبْهَتُهُ فَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ أُجْرَةُ الطَّبِيبِ.
(وَأَمَّا) حُكْمُهَا بِغَيْرِهَا بِأَنْ شَجَّ رَأْسَ إنْسَانٍ مُوضِحَةً فَسَقَطَ شَعْرُ رَأْسِهِ أَوْ ذَهَبَ عَقْلُهُ أَوْ بَصَرُهُ أَوْ سَمْعُهُ أَوْ كَلَامُهُ أَوْ شَمُّهُ أَوْ ذَوْقُهُ أَوْ جِمَاعُهُ أَوْ إيلَادُهُ فَلَا شَكَّ فِي أَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ أَرْشُ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ، وَهَلْ يَجِبُ عَلَيْهِ أَرْشُ الْمُوضِحَةِ أَمْ يَدْخُلُ فِي أَرْشِهَا؟ عِنْدَهُمَا لَا يَدْخُلُ أَرْشُ الْمُوضِحَةِ إلَّا فِي الشَّعْرِ وَالْعَقْلِ وَلَا يَدْخُلُ فِيمَا وَرَاءَ ذَلِكَ.
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ- رَحِمَهُ اللَّهُ- فِي الْإِمْلَاءِ يَدْخُلُ فِي الْكُلِّ إلَّا فِي الْبَصَرِ.
وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ- رَحِمَهُ اللَّهُ- لَا يَدْخُلُ إلَّا فِي الشَّعْرِ فَقَطْ.
وَقَالَ زُفَرُ- رَحِمَهُ اللَّهُ- لَا يَدْخُلُ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ أَصْلًا (وَجْهُ) قَوْلِهِ أَنَّ الشَّجَّةَ وَإِذْهَابَ الشَّعْرِ وَالْعَقْلِ وَغَيْرِهِمَا جِنَايَتَانِ مُخْتَلِفَتَانِ فَلَا يَدْخُلُ إحْدَاهُمَا فِي الْأُخْرَى كَسَائِرِ الْجِنَايَاتِ مِنْ قَطْعِ الْيَدَيْنِ وَالرِّجْلَيْنِ وَنَحْوِ ذَلِكَ (وَجْهُ) قَوْلِ الْحَسَنِ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُمَا جِنَايَتَانِ اخْتَلَفَ مَحَلُّهُمَا وَالْمَقْصُودُ مِنْهُمَا فَلَا يَدْخُلُ أَرْشُ إحْدَاهُمَا فِي الْأُخْرَى كَأَرْشِ الْيَدَيْنِ وَالرِّجْلَيْنِ، وَلِأَبِي يُوسُفَ أَنَّ السَّمْعَ وَالْكَلَامَ وَالشَّمَّ وَالذَّوْقَ وَنَحْوَهَا مِنْ الْبَوَاطِنِ فَيَدْخُلَ فِيهَا أَرْشُ الْمُوضِحَةِ كَالْعَقْلِ.
(وَأَمَّا) الْبَصَرُ فَظَاهِرٌ فَلَا يَدْخُلُ فِيهِ الْمُوضِحَةُ كَالْيَدِ وَالرِّجْلِ، وَهَذَا الْفَرْقُ يَبْطُلُ بِالشَّعْرِ لِأَنَّهُ ظَاهِرٌ، وَيَدْخُلُ أَرْشُ الْمُوضِحَةِ فِيهِ، وَلِأَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى الْفَرْقُ بَيْنَ الشَّعْرِ وَالْعَقْلِ وَبَيْنَ غَيْرِهِمَا، وَوَجْهُهُ أَنَّ فِي الشَّعْرِ الْجِنَايَةَ حَلَّتْ فِي عُضْوٍ وَاحِدٍ بِفِعْلٍ وَاحِدٍ بِسَبَبٍ وَاحِدٍ.
(وَأَمَّا) اتِّحَادُ الْعُضْوِ فَلَا شَكَّ فِيهِ؛ لِأَنَّ كُلَّ ذَلِكَ حَصَلَ فِي الرَّأْسِ.
(وَأَمَّا) الْعَقْلُ فَلِأَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ مِنْهُ إلَّا الشَّجَّةُ.
(وَأَمَّا) اتِّحَادُ السَّبَبِ فَلِأَنَّ دِيَةَ الشَّعْرِ تَجِبُ بِفَوَاتِ الشَّعْرِ، وَأَرْشُ الْمُوضِحَةُ يَجِبُ بِفَوَاتِ جُزْءٍ مِنْ الشَّعْرِ فَكَانَ سَبَبُ وُجُوبِهَا وَاحِدًا فَيَدْخُلُ الْجُزْءُ فِي الْكُلِّ كَمَا إذَا قَطَعَ رَجُلٌ أُصْبُعَ رَجُلٍ فَشُلَّتْ الْيَدُ إنَّ أَرْشَ الْأُصْبُعِ يَدْخُلُ فِي دِيَةِ الْيَدِ، كَذَا هَذَا.
وَفِي الْعَقْلِ الْوَاجِبِ دِيَةُ النَّفْسِ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى؛ لِأَنَّ جَمِيعَ مَنَافِعِ النَّفْسِ يَتَعَلَّقُ بِهِ فَكَانَ تَفْوِيتُهُ تَفْوِيتَ النَّفْسِ مَعْنًى فَكَانَ الْوَاجِبُ دِيَةَ النَّفْسِ فَيَدْخُلَ فِيهِ أَرْشُ الْمُوضِحَةِ كَمَا إذَا شَجَّ رَأْسَهُ مُوضِحَةً فَسَرَى إلَى النَّفْسِ فَمَاتَ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ.
(وَأَمَّا) السَّمْعُ، وَالْبَصَرُ وَالْكَلَامُ وَنَحْوُهَا فَقَدْ اخْتَلَفَ السَّبَبُ وَالْمَحَلُّ؛ لِأَنَّ سَبَبَ الْوُجُوبِ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا تَفْوِيتُ الْمَنْفَعَةِ الْمَقْصُودَةِ مِنْهُ فَاخْتَلَفَ الْمَحَلُّ وَالسَّبَبُ وَالْمَقْصُودُ فَامْتَنَعَ التَّدَاخُلَ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ سَيِّدِنَا عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَضَى فِي شَجَّةٍ وَاحِدَةٍ بِأَرْبَعِ دِيَاتٍ فَإِنْ اخْتَلَفَا فِي ذَهَابِ الْبَصَرِ وَالسَّمْعِ وَالْكَلَامِ وَالشَّمِّ فَطَرِيقُ مَعْرِفَتِهَا اعْتِرَافُ الْجَانِي وَتَصْدِيقُ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ أَوْ نُكُولُهُ عَنْ الْيَمِينِ، وَقَدْ يُعْرَفُ الْبَصَرُ بِنَظَرِ الْأَطِبَّاءِ بِأَنْ يَنْظُرَ إلَيْهِ طَبِيبَانِ عَدْلَانِ لِأَنَّهُ ظَاهِرٌ تُمْكِنُ مَعْرِفَتُهُ.
وَقَدْ قِيلَ يُمْتَحَنُ بِإِلْقَاءِ حَيَّةٍ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَفِي السَّمْعِ يُسْتَغْفَلُ الْمُدَّعِي، كَمَا رُوِيَ عَنْ إسْمَاعِيلَ بْنِ حَمَّادِ بْنِ أَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ أَنَّ رَجُلًا ضَرَبَ امْرَأَةً فَادَّعَتْ عِنْدَهُ ذَهَابَ سَمْعِهَا فَتَشَاغَلَ عَنْهَا بِالنَّظَرِ فِي الْقَضَاءِ ثُمَّ الْتَفَتَ إلَيْهَا وَقَالَ: يَا هَذِهِ غَطِّي عَوْرَتَكِ فَجَمَعَتْ ذَيْلَهَا فَعَلِمَ أَنَّهَا كَاذِبَةٌ فِي دَعْوَاهَا.
وَفِي الْكَلَامِ يُسْتَغْفَلُ أَيْضًا، وَفِي الشَّمِّ يُخْتَبَرُ بِالرَّوَائِحِ الْكَرِيهَةِ، وَسَوَاءٌ ذَهَبَ جَمِيعُ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ بِالشَّجَّةِ أَوْ ذَهَبَ بَعْضُهَا دُونَ الْبَعْضَ الِاجْتِمَاعُ وَالِافْتِرَاقُ فِي هَذَا سَوَاءٌ؛ لِأَنَّ التَّدَاخُلَ فِيمَا يَجْرِي فِيهِ التَّدَاخُلُ لَيْسَ لِلْكَثْرَةِ بَلْ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ الْمَعْنَى وَأَنَّهُ لَا يُوجِبُ الْفَصْلَ بَيْنَ الِاجْتِمَاعِ وَالِافْتِرَاقِ، وَلَا تَدْخُلُ دِيَاتُ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ بَعْضُهَا فِي بَعْضٍ إلَّا عِنْدَ السِّرَايَةِ إنَّهُ يَسْقُطُ ذَلِكَ كُلُّهُ وَعَلَيْهِ دِيَةُ النَّفْسِ لَا غَيْرُ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ مِنْ السَّمْعِ وَالْبَصَرِ وَالْكَلَامِ وَنَحْوِهَا أَصْلٌ بِنَفْسِهِ لِاخْتِصَاصِهِ بِمَحَلٍّ مَخْصُوصٍ وَمَنْفَعَةٍ مَقْصُودَةٍ فَلَا يُجْعَلُ تَبَعًا لِصَاحِبِهِ فِي الْأَرْشِ، وَإِنَّمَا دَخَلَتْ أُرُوشُهَا فِي دِيَةِ النَّفْسِ عِنْدَ السِّرَايَةِ؛ لِأَنَّ الْأَعْضَاءَ كُلَّهَا تَابِعَةٌ لِلنَّفْسِ فَتَدْخُلُ أُرُوشُهَا فِي دِيَةِ النَّفْسِ ثُمَّ إنْ كَانَ الْأَوَّلُ خَطَأً تَتَحَمَّلُ الْعَاقِلَةُ، وَإِنْ كَانَ عَمْدًا فَدِيَةُ النَّفْسِ فِي مَالِهِ، وَكُلُّ ذَلِكَ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ، وَسَوَاءٌ كَانَتْ الشَّجَّةُ مُوضِحَةً أَوْ هَاشِمَةً أَوْ مُنَقِّلَةً أَوْ آمَّةً فَالشِّجَاجُ كُلُّهَا فِي التَّدَاخُلِ سَوَاءٌ؛ لِأَنَّ الْمَعْنَى لَا يُوجِبُ الْفَصْلَ، وَسَوَاءٌ قَلَّتْ الشِّجَاجُ أَوْ كَثُرَتْ بَعْدَ أَنْ لَا يُجَاوِزَ أَرْشُهَا الدِّيَةَ حَتَّى لَوْ كَانَتْ آمَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثَ أَوَامَّ، وَذَهَبَ مِنْهَا الشَّعْرُ أَوْ الْعَقْلُ يَدْخُلُ أَرْشُهَا فِي الشَّعْرِ وَالْعَقْلِ.
وَإِنْ كَانَتْ أَرْبَعَ أَوَامَّ يَدْخُلُ قَدْرُ الدِّيَةِ لَا غَيْرُ، وَيَجِبُ فِيهَا دِيَةٌ وَثُلُثُ دِيَةٍ لِأَنَّ الْكَثِيرَ لَا يَتْبَعُ الْقَلِيلَ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ.
وَعَلَى قَوْلِ زُفَرَ- رَحِمَهُ اللَّهُ- عَلَيْهِ دِيَتَانِ وَثُلُثُ دِيَةٍ لِأَنَّهُ لَا يَرَى التَّدَاخُلَ فِي الشِّجَاجِ أَصْلًا وَرَأْسًا.
وَلَوْ سَقَطَ بِالْمُوضِحَةِ بَعْضُ شَعْرِ رَأْسِهِ يُنْظَرُ إلَى أَرْشِ الْمُوضِحَةِ وَإِلَى حُكُومَةِ الْعَدْلِ فِي الشَّعْرِ فَإِنْ كَانَا سَوَاءً لَا يَجِبُ إلَّا أَرْشُ الْمُوضِحَةِ، وَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا أَكْثَرَ يَدْخُلُ الْأَقَلُّ فِي الْأَكْثَرِ أَيُّهُمَا كَانَ لِأَنَّهُمَا يَجِبَانِ لِمَعْنًى وَاحِدٍ فَيَتَدَاخَلُ الْجُزْءُ فِي الْجُمْلَةِ.
وَلَوْ كَانَتْ الشَّجَّةُ فِي حَاجِبِهِ فَسَقَطَ وَلَمْ يَنْبُتْ يَدْخُلُ أَرْشُ الْمُوضِحَةِ فِي أَرْشِ الْحَاجِبِ، وَهُوَ نِصْفُ الدِّيَةِ كَمَا يَدْخُلُ فِي أَرْشِ الشَّعْرِ لِمَا قُلْنَا.
وَهَذِهِ الْمَسَائِلُ مِنْ الشِّجَاجِ الْخَطَأِ (فَأَمَّا) إذَا كَانَتْ الشَّجَّةُ عَمْدًا فَذَهَبَ مِنْهَا الْعَقْلُ أَوْ الشَّعْرُ أَوْ السَّمْعُ أَوْ غَيْرُهُ فَفِيهِ خِلَافٌ ذَكَرْنَاهُ فِيمَا تَقَدَّمَ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ.